إن ما يجري على الساحة الفلسطينية هو تحول واضح في معالجة القضايا الخلافية بين قطبي السلطة الفلسطينية _وهما حركتي فتح التي تتمترس حول مؤسسة الرئاسة وبين حركة حماس التي تتمترس حول الحكومة

إن الشعب الفلسطيني لديه ثوابته وأهدافه الوطنية التي يسعى إلى نيلها من خلال نضاله الوطني المشروع. وأن ما يحدث على أرض الواقع من ممارسة سياسية حزبية وفصائلية يقوض المشروع الوطني ويهدد مستقبله، حيث أن ما يعاني منه شعبنا من وضع اقتصادي معيشي سيء يهدد صموده ويدفع بالكثيرين من أبنائه إلى الهجرة.
والمجلس التشريعي_ من حيث نقلها من أروقة المفاوضات التي تجرى في الأماكن المغلقة إلى أزقة الشوارع والحارات عبر خطابات سياسية موجه. حيث من الواضح أن كلا الطرفين قد وصلا إلى طريق مسدود، وبالتالي يتم الآن طلب مساعدة الشارع لحسم ذلك شعبوياً، ومن خلال استعراض وسائل القوة الشعبية وغيرها بين الطرفين، وهو ما ساهم في توتر الشارع الفلسطيني بشكل كبير، وأدى إلى سقوط العديد بين قتيل وجريح، هذا إضافة إلى شل الحياة اليومية في جميع مناحي الحياة والمشلولة أصلاً بفعل الحصار الاقتصادي والمالي والإضرابات والاحتجاجات. وأننا في هذا المقال لا نبغي أن نطبل لهذا الخطاب أو نزمر لذلك، أو نسجل نقاط القوة في هذا أو نقاط الضعف في ذاك. إذ من الواضح إن كلا الخطابين قد شكل تحاملاً، وحمل في ثناياه تحريضاً واضحاً على الطرف الأخر. وكل طرف حاول كسب رجل الشارع وكأنه في مناظرة تلفزيونية تسبق الانتخابات. بل حمل البعض منهم وثائقه وأرشيفه إلى الأستوديو في محاولة لخلق محاججة قوية، وتوجيه ضربة للخصم إعلامياً بالضربة القاضية من أجل الفوز بالمباراة الاستقطابية الحادة. ومن هنا لا بد من التأكيد على النقاط التالية:-

- إن فشل أولي الأمر في حل الخلافات بينهم عبر الحوار يعبر عن أزمة حقيقة في النظام السياسي الفلسطيني، وفي العمل السياسي الفصائلي. وهو يعكس بصورة أو بأخرى عجز قيادات فصائلنا في قيادة العمل الوطني، وافتقارهم إلى سمات القيادة التي تتمثل في البحث الجاد والدائم عن بدائل وخيارات من أجل حل الخلافات بعيداً عن الترهيب واللجوء إلى العنف.

- إن الشعب الفلسطيني لديه ثوابته وأهدافه الوطنية التي يسعى إلى نيلها من خلال نضاله الوطني المشروع. وأن ما يحدث على أرض الواقع من ممارسة سياسية حزبية وفصائلية يقوض المشروع الوطني ويهدد مستقبله، حيث أن ما يعاني منه شعبنا من وضع اقتصادي معيشي سيء يهدد صموده ويدفع بالكثيرين من أبنائه إلى الهجرة. وتشير الإحصاءات التي ترد هنا وهناك عن وجود آلاف ممن غادروا البلاد من بينهم كفاءات علمية ومهنية. وهذا يعد خسارة كبيرة على مستقبل وطننا. والقاعدة السياسية البديهية تقول: إنه في ظل عدم تحقيق إنجازات سياسية فإن من الضروري الإبقاء على ما في يديك، وهنا نقصد قضية الصمود التي تعد أحد أوجه المقاومة للمشروع الصهيوني الذي يقوم أساساً على مصادرة الأرض وتفريغها من السكان. كما أن الفلتان الأمني الذي تشهده الأراضي الفلسطينية والذي وصل إلى جريمة قتل لأطفاله الذين يمثلون جيل المستقبل يعد تهديداً لأمن المجتمع الفلسطيني وهو في المحصلة يقوض عناصر صموده وبقاءه على أرضه. ومن هنا أصبحنا نسمع من رجل الشارع قوله: أنا لا أريد القدس ولا يافا الآن كل ما أطلبه هو الأمن والأمان على النفس والعرض بعدما أصبح الفرد يخشى على الخروج من منزله بفعل اشتباكات الشوارع التي تحصد أرواح الأبرياء، وبفعل جرائم الفلتان الأمني التي تقشعر لها الأبدان. ووصل الحد بالبعض إلى تفضيل عودة الاحتلال الإسرائيلي إلى قطاع غزة هرباً من الجحيم الذي وصلنا إليه. ولذلك فإن ما أوصلتنا إليه الفصائل الوطنية والإسلامية هو واقع اقتصادي ومالي وأمني وصحي وتعليمي لا يشكل بأي حال من الأحوال واقعاً وأرضية صلبة تنطلق منه حركة التحرير الوطنية لتحقيق أهدافنا المشروعة، وأن ما يوجد على أرض الواقع هو تقويض لعناصر القوة في المشروع الوطني، وجر الشعب إلى استنزاف داخلي على الصعد كافة. وأن من الأولويات القادمة هو بناء الوحدة الوطنية لأنه بدون ذلك لا يمكن الانطلاق للأمام قيد أنملة.

- إن ما تشهده الساحة الفلسطينية هي خطب وتصريحات حول حرمة الدم الفلسطيني، وأنه خط أحمر لا يجوز تجاوزه. ولكن هذه الخطب والتصريحات للأسف لا تتجسد على أرض الواقع. حيث أننا نرى أنه بعد أي اتفاق على التهدئه بين الأطراف المتنازعة تزداد الأمور تتوتراً، ويسقط المزيد من الضحايا وربما بشكل أكبر مما سبق مما يجعلنا نوجه ألف تساؤل واتهام للقائمين على الأمر بعدم قدرتهم على ضبط الأمور أو بعدم صدق نيتهم فيما يتم التوصل إليه إعلامياً. وأن ما يتم التصريح به من لجان تحقيق هنا وهناك ليس سوى مجرد هراء للتسويق الإعلامي ليس إلا. وأن ذلك يدفع للاعتقاد أن الأطراف الفلسطينية الفصائلية تتاجر بالدم الفلسطيني في سبيل الحفاظ على مواقعها القيادية، ومناصبها الرسمية وغير الرسمية. وأن الأطراف المعنية لا ترتقي إلى مستوى المسؤولية، ولا تلتفت إلى معاناة الشعب اليومية.

- إن ما يحدث هو صراع واضح على السلطة بين الحزبين الكبيرين. وأن هناك عدم اعتراف من قبل حركة فتح بالواقع الجديد، وأنها لا تزال تصر على قيادة الشعب الفلسطيني سواء على مستوى السلطة الفلسطينية أو منظمة التحرير الفلسطينية، وفي المقابل هناك حركة حماس التي تريد صياغة الواقع الفلسطيني والتاريخ الفلسطيني وفق رؤيتها، وترى بأحقيتها في قيادة الشعب الفلسطيني. وترى في الانتخابات الأخيرة نقطة تحول في المجتمع الفلسطيني، وأن ذلك بمثابة تفويض لها بقيادة المشروع الوطني. وهنا تكمن معضلة محاولة كل طرف إقصاء الأخر، فالقديم لا يعترف بالجديد، والجديد يريد أن يلغي القديم ويجعله تاريخاً وتراثاً. ولذلك فإن ما يحدث على أرض الواقع ليس خلافاً برنامجياً أو اختلاف على حقائب وزارية فقط بل هو أزمة ثقة قائمة، وغياب عقلية الشراكة الحقيقية بين الطرفين، ودفاع كل طرف عن قلاعه والسعي إلى تقويض وهدم قلاع الآخر.

- إن ما يجري على الساحة الفلسطينية لا يتحكم فيه العامل الذاتي الفلسطيني فقط بل هو انعكاس لعوامل إقليمية ودولية. فمن الواضح أن هناك معسكراً مدعوماً من قبل بعض دول الطوق، وكذلك دولاً أوروبية وكذلك الولايات المتحدة الأمريكية فيما يتلقى الطرف الأخر دعماً من دول عربية وإقليمية مثل سورية وإيران. وبالتالي فإن ما يحدث هو تصارع رؤى أيدلوجية وأجندات إقليمية على أرض فلسطين. وأن الأطراف الفلسطينية لا تحتكم في الخلافات القائمة بينهما إلى المصلحة الوطنية الفلسطينية، وإلى الرؤية الداخلية الفلسطينية، وإلى العامل الذاتي الفلسطيني بل تنتظر المباركة والموافقة من إطراف خارجية تتجاذب الساحة الفلسطينية لخدمة مصلحتها الإقليمية والدولية إذ من الواضح أن إيران وسوريا توظف القضية الفلسطينية في خدمة أجندتها الدولية، وتستخدمها كأوراق ضغط على الولايات المتحدة في القضايا العالقة بينهم. فيما تهدف دول عربية أخرى إلى إجهاض التجربة السلطوية الإسلامية في فلسطين خشية على تصدير هذه التجربة إليها لاسيما وإنها تعاني من إشكالات كبيرة مع حركات الإسلام السياسي داخلها.

لذلك يتوجب القول إن على طرفي الصراع الاحتكام إلى لغة العقل، وتغليب المصلحة الوطنية على المصالح الحزبية الضيقة. وأنه لابد من العودة للحوار ولكن بعقلية جديدة تقوم على حسن النوايا، والرغبة الحقيقية الملحة في تحقيق مبدأ الشراكة. حيث أن الواقع الفلسطيني يشير إلى تمتع كلا الطرفين المتصارعين ببعد شعبي قوي، وأنه لا سبيل إلى إقصاء طرف أو تهميشه، وأن زمن تفرد قطب واحد بالقرار الفلسطيني والمشروع الوطني قد ولى، لذلك فلا بد من صياغة مبادئ جديدة تقوم اقتسام السلطة على أن تقوم العلاقة الجديدة على التكاملية وليس على الصراع. وأن القيادة الفلسطينية يجب أن تستعيد المبادرة لإدارة الخلاف وحله بين أروقة الحوارات وليس قذفه إلى الشارع كما هو عليه الآن لأن ذلك يترك المجال لذوي الأفق الضيق والمتعصب لاسيما في ظل التربية الحزبية المغلقة التي تتسم بها فصائلنا الفلسطينية من قيادة الشارع إلى ما لا يحمد عقباه، وإلى نزاع دموي سيأكل الأخضر واليابس. وأن الجهود يجب أن تتجه نحو تشكيل حكومة وحدة وطنية لأن القفز إلى مغامرات انتخابية أخرى ربما تنقل الشارع الفلسطيني من واقع متأزم إلى حالة أكثر تأزماً.

د. خالد محمد صافي