أحداث العنف في فرنسا (الحلقة الرابعة)

في هذه الحلقة من أحداث العنف في فرنسا نتابع ماقدمناه في الحلقة السابقة بعد إيجاز سريع لأهم النقاط أدناه : بعض الوزراء يحتقر المهاجرين ويحاول تطبيق سياسات لترحيلهم وإبعادهم عن البلاد، أحداث العنف قد تؤدي الى حرب أهلية، أخطاء الحكومة بعدم تبني سياسات دمج المهاجرين في المجتمع وإهمال أبناءهم دون تعليم ودون عمل ودون مأوى وهي تتشدق بالحرية والديموقراطية والعدالة الإجتماعية.
ونتابع أيضاً أن هناك تهميش للجيل الثالث والرابع من أبناء المهاجرين بتبني سياسة التمييز العنصري والكيل بمكيالين، ولاتلقي بالاً للبطالة، ولاتعمل على محاربة الفقر والجهل والمرض، ولاتعمل على التكافل الإجتماعي، إقرار رئيس الحكومة بالتمييز مما حرمها من كفاءات مهمة، ومن ينظر الى الأحداث بنظرة ثاقبة يتضح له أن ما يحدث في الضواحي والمدن بأنها أعمال تضر بالممتلكات، ولكن هذا لايعني تجاهل المشاكل التي تعاني منها تلك الضواحي المهمشة نتيجة غياب مؤسسات الدولة والمرافق الفاعلة مثل المعاهد الكبرى والمؤسسات التعليمية المتخصصة.
وفي هذه الحلقة سنركز على الأحداث الجارية بعد المظاهرات التي عمت فرنسا إعتراضاً على quot;قانون العمل الجديدquot; الذي جاء توقيته سيء الطالع على فرنسا ولاسيما أنها بدأت تفكر في تبني إستراتيجيات الإندماج وإقامة البرامج إقتصادية والثقافية والإجتماعية والدينية وإصدار قوانين جديدة ترسخ العدل والمساواة بين طبقات المجتمع وترسيخ مباديء التعايش السلمي بين هذه الطبقات بعد الأحداث الدامية في إنتفاضة الفقراء قبل عدة شهور.
ولكن بدلاً من وضع سياسة إصلاح شاملة في مناهج التعليم لتعمق أواصر الوحدة وإنصهار الثقافات ومبدا قبول الطرف الآخر وعدم التمييز بكل أشكاله، ومعالجة الخلل في التوزيع السكاني وما أن هدأت الأحداث مالبثت أن إشتعلت من جديد وإن دل هذا على شيء فإنما يدل على السياسات الخاطئة التي مازالت ترتكب فالوزراء الفرنسيون لم يعودوا قادرين على فهم مايحدث من تدهور أمني.
وإذا كانت الشرارة الأولى لإنتفاضة الفقراء إنطلقت من الضواحي إلا أن الجذوة مازالت مشتعلة لأن ذلك يدل بكل تأكيد على الموقف الإجتماعي السيء الذي يعيشه الشباب على وجه التحديد فهو مازال يعاني من البطالة وعدم إحترام الهوية الشخصية وإذا كان الوضع المتفجر مازال قائماً فلماذا إصرار الحكومة على تبني قوانين جديدة للعمل من شأنها أن تؤجج المشاعر الملتهبة والنفوس المتوترة.
مما سبق أعلاه يعتبر سبب مهم أدى الى تظاهرات حاشدة ومصادمات مع الشرطة في قلب باريس والتي شارك فيها مئات الآلاف من الموظفين وطلاب الجامعات والمدارس مطالبين بإلغاء القانون المسمى quot;عقد الوظيفة الأولىquot; وهذا أيضاً أدى الى توحيد جهود النقابات العمالية وأحزاب اليسار المعارض ومنظمات طلاب الجامعات والمدارس الثانوية جهودها في المدن الفرنسية ضد القانون الذي يسمح بفصل الموظفين الجدد الذين تقل أعمارهم عن 26 عاما خلال أول عامين من عملهم بدون أي مبرر.

ولابد أن تتخوف السلطات الفرنسية من أن تتحول هذه التظاهرات إلى أعمال عنف مماثلة لما شهدته ضواحي باريس منذ عدة شهور، فبعض الوزراء يلعب بالنار لأغراض إنتخابية وفي مثل هذه الحالة ليس أمام دوفيلبان سوى سحب quot;عقد الوظيفة الأولىquot;، وquot;الإصغاء لمنطق العقلquot;.

أما الرئيس جاك شيراك فهو في وضع لايحسد عليه خصوصاً قرب إنتهاء ولاية عهده فهو يدعوا إلى الهدوء ويحث مختلف الأطراف إلى فتح الحوار، رغم تعالي الأصوات المنتقدة له ولغيره حتى من داخل حزب رئيس الحكومة quot;دوفليبانquot; والذي مازال يتمسك ب quot;القانون الجديدquot; ويدافع عنه بالقول إنه يتيح محاربة البطالة ولكن المتوقع هو إذا تراجع رئيس الحكومة عن ذلك القانون فسوف يقضي ذلك على مستقبله السياسي وعلى مستقبل حزب الاتحاد من أجل الحركة الشعبية الذي يتزعمه وزير الداخلية نيكولا ساركوزي وهو مرشح محتمل آخر في الانتخابات، وهناك تراجع في شعبية الحكومة أظهره إستطلاع للرأي بنسبة 68% من الفرنسيين يوافقون على المطالبة بسحب quot;القانون الجديدquot;، ما أعطى هذا النزاع زخما لشعبية الحزب الاشتراكي المعارض الذي أضعفته الانقسامات.

وتسعى هذه التظاهرة التي تدعمها عشرة أحزاب يسارية كالحزب الاشتراكي إلى حشد عدد أكبر من المتظاهرين وهي تأتي إحتجاجا على quot;نظام التعاقد الجديدquot; الذي سيتيح لأرباب العمل إنهاء خدمة أي شاب وشابة يتم توظيفهما للمرة الأولى من دون تقديم أي تبرير.

ومابين رأي المؤيدين والمعارضين يبقى إحساس الشبان بعدم الأمان وهو مايبقي جذوة العنف مشتعلة وقد تغير مسار مصير فرنسا بأكمله وسيما أن الطلاب مازالوا مضربين في ثلثي جامعات البلاد التي يبلغ عددها 84 جامعة، وفي عشرات الثانويات كما لا يزال التوتر قائما في ظل عدم نية دوفيلبان التراجع عن موقفه وحاول بعض الوزراء وقف المعارضة المتزايدة لنظام quot;التعاقد الجديدquot; باستخدام لهجة استرضائية، وقال أحدهم إنه لن يكون ممكنا فصل العامل دون مبرر بموجب هذا القانون رغم ما يقوله المعارضون من أنه سيخلق جيلا من العمال الذين يمكن الاستغناء عنهم.
وقال وزير الداخلية نيكولا ساركوزي quot;إن معظم الطلبة احتجوا بشكل سلمي ملقيا باللائمة في العنف على مجموعة صغيرة من قطاع الطرق الراغبين في وقوع مصادمات على حد قولهquot; ومن الجدير بالذكر في هذا الصدد القول إن هذا الوزير هو الذي اتخذ نهجا متشددا ضد مثيري الشغب في الضواحي العام الماضي ويعزى له سبب إشتعال إنتفاضة الفقراء بسبب الألفاظ النابية التي أطلقها ضد المهاجرين سكان الضواحي.

كما أن أصحاب العمل يبدون مشاعر متباينة بشأن quot;قانون التعاقد الجديدquot; الذي يأمل البعض أن يؤدي إلى تحسن الحياة في ضواحي باريس الفقيرة التي تعرضت الى أحداث عنف حيث أشعل شبان غاضبون بسبب التفرقة أو تصريحات وزير الداخلية آلاف السيارات العام الماضي وحيث تصل نسبة البطالة بينهم إلى 50%.

وهنا نتوجه الى جميع الأطراف بالحوار الهاديء حتى لاتضيع مكتسبات فرنسا وفي نفس الوقت نوجه الدعوة الى بعض الدول العربية التي تنتهج نفس أسلوب فرنسا وسياساتها ضد المهاجرين بالعمل سريعاً على تغيير تلك الأنظمة والقوانين حتى لاتقع أعمال عنف لاتحمد عقباها، ووضع سياسة إصلاح شاملة في مناهج التعليم وفي العلاج وقوانين الجنسية لتعمق أواصر الوحدة وإنصهار الثقافات ومبدا قبول الطرف الآخر وعدم التمييز بكل أشكاله، ومعالجة الخلل في التوزيع السكاني فهناك فئات كثيرة مظلومة في المجتمع العربي والضغوط مازالت عليها مستمرة الأمر الذي سيؤدي حتماً الى إنفجارها وخروجها من عقالها وتذكروا دوماً الجذوة المشتعلة.

الحلقة 3

مصطفى الغريب

شيكاغو