إلى الشاعر كمال سبتي في منفاه

الموت كظاهرة طبيعية لا غضاضة فيه ليس له شروط أو أزمان محددة فهو كالشمس التي تشرق يومياً وتوزع أشعتها على الجميع، يدرك الغني والفقير والمعافى والمريض وبهذا التقدير اليومي ينال توصيف العمومية. وما هلعنا من الموت سببه جزعنا من النتيجة التي نحاول تأجيلها وليس الغاءها ( الخسارة، الفقدان ) نتشبث بالحياة وننمي غرائزنا، وللموت صفات حميدة : أحيانا يكون مخرجاً ونجاةً من ضائقة مالية أو نفسية وحتى وظيفية فالجسد دائم في مسعاه الحثيث نحو الموت، وعند الهرم وفشل الأعضاء في القيام بوظائفها تمل الارواح أبدانها وتسهل فكرة تقبل الموت يحدث حينئذ تؤاطؤ بين الجسد والروح لقبول النهاية الحتمية. الإنسان المؤمن ينبغي أن لا يجزع من الموت وإلا فهو يعاكس شروط منح الحياة وإحقاق الموت وهي من صفات الخالق في المفهوم الديني الذي يتبناه الا وهو عدم نفي الموت. أن العيش في بيئة نقية وبعيدة عن التوترات يساهم في التقليل من نسبة الوفيات ولكن لا يدرء الموت المقدّر إن وقع فليس هناك شروط للموت حتى في الطب الجنائي تدرج عبارة أسباب الوفاة وليس أسباب الموت وتتبنى بعض الطوائف الدينية الدروز مثلا المبدأ الإحلالي أي إحلال روح الميت في شجرة أو حيوان فالموت في معتقداتهم ليس عقوبة للحياة بل إستمرار لها. هنالك ظاهرة أخرى أقسى من الموت وتشتمل عليه وتلم بأسبابه من جميع الجوانب ولها شروط وظروف، ولطالما لها شروط فهي ليست عمومية ولا تدرك الجميع نخبوية حتى في الاختيار ألا وهي ظاهرة المنفى، إن القسر والإكراه ثم المكابدة الشاقة لشظف الحياة بشقيّها اليومي والإبداعي من صفات النفي، ولذلك يتفوق النفي على الفجيعة ذاتها، فالموت يكون أحيانا مفاجئ ليس فيه جانب كبير من التعذيب إلا في حالة مصارعة المرض العضال وقد يستمر سنتين أو ثلاث ومرض عضال المنفى يستمر سنوات طويلة تصل أحيانا إلى ما يبقى من عمر المنفي كله. أناقش المنفى من حيث إستحقاقه التعذيب عن جدارة من خلال التصور السومري ( يُعتقد أن السومريين هم الأكثر إنغلاقا على الذات مقارنة بالبابليين الأكثر إنفتاحا على العالم )
تقول الاغنية السومرية :
( لقد نفتنا الآلهة غرباء حتى مع أنفسنا
نجوب أزمنة الماضي كأجساد دون قيثارات
حكايتنا حكاية بحارة يعشقون النبيذ )
غربة، غرباء مفردات ملازمة للنفي والأنكى غرباء حتى مع أنفسنا هنا عدم الإنسجام مع الذات أي إنفصال، إبتعاد ( نفي ) نجوب أزمنة الماضي : ليس للمنفي زمنا تفصيليا بل أحادي الجانب والمنفي عائم في هذا الزمن ( نجوب ) ولا يندرج زمنه ضمن التوصيف التقليدي ( ماض، حاضر، مستقبل ) والماضي ليس زمنا واحدا بل عدة أزمنة، أزمنة من طبقات وعليه يكون الماضي هو المستعمر للمنفي، والمنفي يطاوع هذا الإستعمار ويتقبله يستحضر الماضي يتذكره ويلتجأ إليه فهو الحارس الأمين لشخصه. الذكريات هي نفي للنسيان وبهذا يخلق المنفي موضوعا معادلا يزوده بالقوت اليومي لكي يبقى ويتمسك بالذاكرة ويطرد ( النسيان ndash; النفي ). عبارة أجساد دون قيثارات، القيثارة تشبه الرأس والقيثارة السومرية شكلا تحتوي على الرأس، ففي الرأس موسيقى أحلام ورؤى وهذا البتر للرؤوس هو نفي للتكامل الجسدي لجسم الإنسان ( رأس، جذع، أطراف ) ( للباحث عبد الفتاح كليطو تعليق ظريف حول محو الأعناق في الرسومات الإسلامية أنظر كتاب لسان آدم ) كلمة بحارة تعني رحلة، سفر. الامواج نفسها في رحلة شديدة التغيير أحيانا البحر عالي الموج وأحيانا ساكن هادئ في السفينة بوصلة تشير للإتجاهات تتغير بتغير إتجاه الرحلة ( نفي الثابت من المكان ) ومقوّد السفينة يحركه البحار وعليه ليس للبحارة زمن ثابت أنما زمن متغيير يتعلق بساعات الوصول للموانئ أو في عرض البحر ليلا ونهارا مكان وزمن متغيران يتعاقبان على الرحلة البحرية ( نفي ) هذا حجر الزاوية في التصور السومري للنفي. المنفي لا يؤثث المكان ولأنه بحار يتقشف بالأثاث. ويستمر النفي في ظلمه ليشمل الحياة الأسرية لذا نادرا ما يتزوج المنفيون خاصة المبدعين منهم أو يؤجلون الزواج إلى وقت متأخر فالزواج يعني القبول بشريك أي الموافقة التي هي ضد النفي، لاحظ النفي في اللغة : أداة نفي اي إنكار، وأداة توكيد اي قبول. وبما إن الزواج قبول بالشراكة لذا يتحاشى المبدعون المنفيون الزواج ويشذ عن هذه القاعدة في تصوري المنفيون السياسيون لأنهم يبحثون عن المناصب والمنصب جاه يعني المكانة أي المكان، فالسياسيون أحادي المنفى ( فقط الجانب السياسي ) بخلاف الفنانين متعددي المنافي، منفى الأحلام، فالأحلام تتحرك، منفى الروح إغتراب.
من خلال تدقيقي الخشن بالنفي وجدت إن العراقيين أكثر شعوب الأرض إستخداما لهذه الكلمة مقارنة بالشعوب الاخرى حيث يستخدمون كلمة مهاجر، هجرة، وشتان بين الهجرة والنفي، لاحظ إستخدام المصطلح ( حصرا على العراقيين أدب الداخل والخارج ) الخارج نفي. وحتى عندما يشتمون بعضهم البعض على صفحات الجرائد وهي ظاهرة عراقية بإمتياز فالشتمية نفي للحميمية والصداقة وأعتقد إن للعراق تراثا في النفي أدبا وتجربة وهنا أشير إلى الملاحظات التالية : أولا في سفر كلكامش وبحثه عن الخلود، السفر ترك الموطن الاصلي أي نفي وأن كان موقتا والخلود هو نفي للموت يفشل نفي الموت ولكن يتحقق في جانب آخر نفي الزوال.حيث يموت كلكامش وتخلده الملحمة.
ثانيا :ً رحلة إبراهيم من أور وتغربه في اصقاع الأرض جاء نتيجة لإنكار الكهنة في أور للتوحيد الذي تبناه، الإنكار نفي للتوحيد مما حدا بإبراهيم أن يخرج وينشر فكرة التوحيد. تثبيت التوحيد الذي نادت به لاحقا الديانات هو نفي للإنكار الذي حصل في أور.
ثالثا : لقد غير النهران مجريهما وخاصة الفرات هذا التغيير ( هجرة النهر نفي للمصب الرئيسي ).
رابعا : في التاريخ الحديث يقدر عدد المنفيين العراقيين بأربعة ملايين.
نرى مما تقدم أن النفي الفلسفي والمكاني قد ساهم في تشكيل تاريخ بلاد الرافدين فالنفي دائم اللسان في تاريخ العراق.
وبالعودة لبداية المقال فأن موت الإنسان أمر طبيعي ويومي لا جدة فيه. منذ القدم يؤول جسد الميت إلى الارض وفي أوربا أحيانا إلى الحرق ثم رماد، والرماد حاضر في الارض، ولكن الموت نفيا هو الأقسى حيث يتحقق الموت المركب الذي يمتلك الميتتين ( المنفى والموت ) هنا تكمن سعادة الموت ألا وهي القصاص الكامل من المنفي. فأي هول بقي حينئذ للموت ؟، فقد سلبه النفي هذا الهول وتفوق عليه في فخامة الفجيعة.

من دراسة بعنوان تاريخ النفي بالعراق

علي البزاز

[email protected]