.. ودارت بنا الطائرة العراقية المتقشفة المقلعة من مطار دمشق الدولي في سماء (مطار بغداد) دورات، ودورات، ودورات.. كي لا تبتعد عن محيط المطار.. كي لا تصيبها مدفعيات "المجاهدين" اللهم عافنا!
دارت ودارت.. وأنا أفعل بكاميرتي كي ألتقط مواقع من وطني الذي أعود اليه بعد أكثر من 26 عاماً من المنفى.. أصور وأصور.. فأهبط وأهبط.. وأهبط.. فأمضي في دروب مطار بغداد الدولي.. (مطار صدام الدولي).. فأين بغداد الآن؟ وأين صدام؟.. وأيننا؟ ولا أقول ذلك، إلا حباً بالعراق.. واللهم لا شماتة!
.. وأقف أمام ضابط شرطة المطار، بنجمتين، ولكنه يحاورني بخجل وارتباك.. تصوروا أنني أنا (كمدان 26 عاماً)، أبدو كمن يخيف ضابط المطار بنجمتين! أي مطار هذا؟! وأين هو صدام؟؟
.. وتأخذني السيارة نحو قلب العاصمة بغداد. وأفتح النافذة وأعب هواء أرجوه عليلاً على الرغم من روائح البارود!
وأرى رؤوس الفجل الأبيض، فلا أصدق أنني أراها من جديد! وأنظر الى الطابوق الذي افتقدته عمراً.. فكيف سأعب من الوطن؟!
وماذا سأعب، وأنا في هاجس أخي المريض الذي دعا في كي يراني وأراه قبل رحيله عن الحياة؟؟
***
مكثت في بغداد ليلتين بيوم ونصف اليوم.. خلال ذلك كنت أختلس النظر الى عاصمة عمري اختلاساً.. وأخاف أن أزيح الستارة، كي أنظر الى نهر العمر (دجلة).. وأرى كيف حال حالُه بعد كل هذا العمر!.. أخاف أن تأتي القذيفة.. أخاف أن أسبب أذى غير مقصود للذين أشاركهم السكن والحذر؟
أين البلاد؟!
إنني أختلسها اختلاساً؟
المهم أن أبلغ أخي قبل بلوغ آخر إليه؟
خرجت في الليلة الثانية أخطو بحذر في ما يسمى شارع السعدون، ولكنه ليس (السعدون) الذي أعرف، والذي تربيت عليه أربع سنوات في كلية التربية البغدادية، وعشر سنوات ترددت خلالها على بغداد (بغدادي)، برشيدها وبابها الشرقي، وباب المعظم، وجادة أبي نواس، وساحة التحرير بالنصب الكبير نصب الحرية للنحات العظيم جواد سليم.. لم أر كل ذلك الا اختلاساً، وبواسطة صديق استعار سيارة عتيقة كي لا تستهدف سيارته الأنيفة والمسؤولة بالقذائف أو القناصة.
يا الله؟
أهذه بغداد؟؟
أهذه قاعة (كولبنكيان) العتيدة؟؟ كم تبدو حزينة ومسكينة، تحيط بها تعاسات لا يمكن وصفها.. وقاذورات.. وما لا يسمى؟
قال صاحبي المتخفي عن العيون بسيارة عتيقة: "كنا نفكر باعادة الحياة، الى هذا الصرح العريق العظيم.. ولكن حين نظرنا الى ما يحيط به، قلنا لأنفسنا: من سيقصد هذا المكان لمشاهدة لوحات أو تماثيل.. والمكان محاط بكل هذه الرداءة والقذارة والمجانية؟".
الله أكبر؟
أهذه هي اللوحة الجدارية لفائق حسن.. أهذه حماماتها البيض الطائرات، مسهن السخام في هذا الشارع العام.. وأين هي (ساحة الطيران) التي هي ما هي في تاريخ العراق.. أين أنا.. وأين هي بغداد؟!
.. هذه هي الجولة الأولى الاضطرارية في بغداد، بعد ستة وعشرين عاماً من المنفى.. فكان منتهاها في الشوارع الخلفية، كي أعود الى مكمني بعدما عجزت عن العثور على صديق قريب، أو قريب صديق.. فصدّت نفسي، ولم أتناول عشائي تلك الليلة، لأنني رأيت ما رأيت بعيني اللتين ماتتا كي لا أرى ما رأيت؟
هكذا.. حتى أودعني الصديق المبدع الحبيب (إبراهيم الحريري) فراشاً حنوناً في شقته المتواضعة، على أن أرحل صباح اليوم التالي الى البصرة.. جنة البستان كما أحب أن أسميها منذ كتابي عنها "البصرة.. جنة البستان".
خرجت غبش الخامس عشر من شباط 2005 متعثراً كي أضع روحي وجسدي في شارع السعدون الذي لم يعد كذلك.. حتى جاءت سيارة أقلتني الى كراج النهضة البغدادي، لأسافر في أول باص ينحو نحو البصرة، وقلبي يرق لرؤية أخي المريض (وهو أبي حقا).
أدخلني السائق الى فضوة الكراج، فسمعت من يصيح: بصرة.. بصرة.. بصرة؟ فارتقيت الباص، فقال السائق: خذوا أماكنكم أولاً، ثم اقطعوا التذكرة من المكتب..
مضينا الى المكتب المظلم بسبب غبش اليوم وانقطاع الكهرباء، ووقفنا طابوراً، حتى جاء رجل يحمل سراجاً ليضيء المكان، وكنت حائراً مع نفسي والتعامل بالعملة العراقية الجديدة التي لدي منها الكثير، وليس لدي ما يدلني على قيمتها وكيفية التعامل بها، فأخرجت منها حزمة من جيبي، وأولعت قداحتي كي أميز أرقام قيمتها كي أدفع المبلغ المطلوب للتذكرة، فبدوت كمن يشعل ناراً في نقوده؟
وأقلعت الحافلة من الكراج في الساعة السابعة من صباح بغداد الغامض، وسارت في شوارع صفتها الازدحام. سارت عشر دقائق، حتى توقفنا ضمن طابور لا يعد من السيارات والحافلات. توقفنا وتحركنا وتوقفنا وتحركنا حوالي الساعة وأربعين دقيقة. ثم سرنا فبدأت حفلة "السيطرات" الممتدة بلا كلل ولا ملل، من (الزعفرانية) في بغداد، حتى (كرمة علي) في البصرة.
بعد ساعتين من زمان العراق الجديد بدأت رحلتنا من بغداد، الى البصرة في عناء لا يثير أحداً من المواطنين، وكنت أحترق.. ولا حقّ لي في أن أبدي احتراقي. وسارت بنا السيارة كالدابة المتمهلة.. وصرنا نتوقف عند الحواجز (السيطرات). وكان الشرطة الملثمون مثل جماعة الزرقاوي يفتشون الشباب، فكانت لحيتي البيضاء مجنّاً "دون من كنت أتقي"؟
هكذا حتى (علي الغربي)، و(علي الشرقي).. ولا أدري حتى بلغت منتهى الرحلة، منتهاي ساحة (سعد بن أبي وقاص)، الموقف المستحدث للحافلات القادمة إلى البصرة، فاتخذت سيارة توصلني الى بيتي، بعد ستة وعشرين عاماً من الغياب.. وليتي لم أفعل ذلك حتى الموت؟
إنه بيتي
ولكنه لم يعد بيتي
وغرفتي.. التي لم تعد غرفتي
ومكتبتي التي لم يبق منها كتاب واحد؟
(ولقد أخبرني الصديق المبدع محمد خضير بأنه عثر ـ واشترى ـ من على الرصيف كتاباً من مكنوناتي وعليه اسمي، وهو مستعد لإعادته إليَّ، فشكرته قائلاً: خذه، فهو لك.. فأنا لم أعد أسأل عن شيء لي سوى النخل والنهر)؟
***
خصصت الأيام الثلاثة الأولى لرؤية الحجر والشجر، فقد أجلت رؤية البشر الى ما بعد ذلك.
قلت ذلك لبهاء ابن أخي المريض، وهو يخدمني بسيارته الجديدة، وكانت الشوارع مزدحمة دائماً، والسيارات طوابير في كل مكان وكانت كاميرتي معي، والتقطت ما استطعت من الصور وأنا في السيارة، أو بتوقف قصير:
ـ خذني الى كورنيش (شط العرب)؟
فقال ابن أخي: "حاضر عمو".. ومضى بي الى هناك، وكان شط العرب هو الشيء الوحيد النظيف في عموم الأصقاع العراقية التي مررت بها، في بغداد والكوت والعمارة والبصرة.
حتى الكورنيش كان مثلوماً بضفتيه، فالضفة الشرقية أزيلت جمالياتها بعد الحرب الأخيرة، فلا "فندق جبهة النهر" ذو الشناشيل الخشبي الأخاذ، ولا وريثه "فندق الشيراتون" العظيم.. فهذا الأخير أخذه السلب والنهب والحريق؟
سأبدأ بالكورنيش من تمثال بدر شاكر السياب التمثال الوحيد الذي بقي بعد زوال المئة "صنم" لشهداء صدام منذ الحرب على إيران.. الأصنام التي ظلت سنوات تشير الى جهة إيران، بينما السياب وحده ظل يولي ظهره الى النهر، ويداه حائرتان نحو العشار والبصرة العتيقة، بسترته العتيقة، وجيبه المثقوب برصاصة، بعدما كان مثقوباً بالعوز والحاجة.
مقابل تمثال السياب تقع أهم مديرية للتمور في العراق (في البصرة).. بناء يبكي على نفسه، بعده فراغات موجعة، بعده أطلال "متحف التاريخ الطبيعي".. كيف صار هذا المتحف أطلالا؟؟.. بعده.. وبعده.. وبعده بيت المحافظ (المتصرف) صار مقراً لحزب ما.. بعده لا أثر للقنصلية البريطانية المعهودة، ولا للقنصلية الأميركية.. بعدهما ضاعت (حديقة الأمة) حديقة فيصل الثاني أيام الملكية.. صارت خرائب ينبت فيها ما يشاء مما شاء لها الله، وبعد كل ذلك ليس سوى الخرائب والصقالات والسلالم التي لا تعني شيئاً!
وأتابع سيري في مدينتي التي هجرتني مدة عقدين ونصف العقد من الزمان.. أقول هي التي هجرتني، كما قال المتنبي:
إذا ترحلت عن قوم وقد قدروا ألا تفارقهم فالراحلون همو
فأمضي الى مرابع طفولتي وصباي، وما رسمت صورته في كتابي عن مدينتي.. فأرى الدروب والبيوت كما آلت اليه، فهي كما كانت دروباً وبيوتاً، ولكنها الآن دروب وبيوت ترسم وجع تلك السنين، والخراب الذي فيها ليس خراب الحرب الأخيرة، بل هو خراب السنين الطويلة، والاهمال المقصود من قبل النظام الماضي، والاهمال غير المقصود من النظام الحالي، القاصر عن تحقيق شيء، لا للحاضر ولا للماضي (فما هو المستقبل)؟!
.. البيوت كلها آيلة للسقوط؟ ولكنها واقفة بشرف.. والأزقة تراكم عليها التراب والطين وتحولت الى وحول، ولكنها ظلت مع ذلك سبلاً الى البيوت، حيث سلام الأرواح مهما تكن الكوارث!
أجول في هذه الأنحاء بإهابي الثقافي المريب وكاميرتي، فيظنني غير قليل من البشر موظفاً حكومياً أريد أن أقدر مكافآت للمتضررين، فيهمون نحوي.. فأقول لهم: شكراً.. شكراً.. لا أريد شيئاً سوى التصوير.. شكراً.. شكراً، فيبهتون.. وأمضي.. أبتعد عنهم دامع العينين: عيني وعين كاميرتي!
غير أنني مصر على المضي قدر المستطاع لتتبع الوجع الذي أصاب البيت ـ الوطن.. فأمضي الى بيت "حجي أسود" و"جامع فقير" فأرى البيت كما هو، بينما الجامع أقيمت عليه منارة من طراز جديد لا يناسب فقر (جامع فقير) الذي تربينا على فقره الغني. وأدلف يمينا في الزقاق الضيق، ماضياً الى منعطف يؤدي الى حسينية بصرية عريقة، فلا أرى سوى أطلال بقي منها اسطوانة لفت بسواد من شهر عاشوراء، ولا شيء حولها سوى الانقاض والحجارة الخرساء الحزينة!
وألتفت خلفي الى ركن ركين في روحي من تلك السنين، لأرى بيتاً يعنيني، فأراه كما هو، ولكن ليس كما أود أن أراه كما كان، ومن كانت تقف عند بابه من أجلي!
.. وأدور في أزقة المحلات التي عشت فيها، والمحلات التي عايشتها طيلة عمري العراقي ـ البصري، فأرى العجب العجاب، فالأزقة أوحال، والبيوت شبه خراب.. والشناشيل حزينة!
أما سوق الهنود ـ سوق المغايز، فلم يعد "سوق هنود" ولا "سوق مغايز".
لقد اختفت كل العلامات الأساسية لسوق الهنود ـ سوق المغايز.. بحيث صار خالياً من رائحة الهنود، وخالياً من أناقة المغازات، فبدل المحلين للعطارين الهنديين.. صار المحلان محلين لبيع الأحذية.. ومثلهما محل للأدوات الموسيقية صار محلاً لبيع الأحذية.. وأختفت آثار عظيمة عبر هذه السنين، والحروب والحصار، والتغيرات الأخيرة.
رحت أرتجي أن أرى "مكتبة الجميع"، فقيل لي: اختفت من زمان، ولكنني رأيت مكانها محلاً اسمه "محل الجميع"! إنه أثر ولكن لبيع الملابس لا لبيع الكتب، سوق الهنود كله يبيع الملابس.. ما هذا؟!
لم يبق في مسار "سوق الهنود" من معالم أعرفها شيء سوى أثر لمكتبة الجميع هو "محل الجميع"، ومحل "خماس أبو الشربت" باسم جديد هو اسم ابنه "جبار أبو الشربت"، فأين أمضي بعد 26 عاماً من الغياب في هذه الدروب الجديدة المتهرئة؟!
والآن اسألوني عن "شارع الوطني" في البصرة، فأقول إنني رأيته في شباط 2005 غير الذي أعرفه منذ 26 عاماً، فبدا لي مثاراً للحزن والأسى واللوعة وكل التعبيرات المماثلة.. بدا لي أكثر الشوارع لوعة في العالم!
أيُعقل أن يكون شارع الوطني هذا الركام، وهذا الطين، وهو شارع المكتبات والنوادي، وسينما الوطني الشتوي، والصيفي، والغاردينيا، والأجهزة الدقيقة، وعربة السندويش عن سيغما غازي "الجمهورية".. أين عبد الواحد، صاحب تلك العربة؟! أين العربة؟! أين السينما؟!
التعليقات