في ثلاثينيات القرن الماضي ساد نوع من الجمود في التجارة الخارجية تحت تأثير ماكان يسمى انذاك بأنتهاج سياسة الاكتفاء الذاتي.
اثرت هذه السياسة بشكل مباشر على اقتصاديات الدول الصناعية لانها تحتاج الى السوق الدولية لتصريف منتجاتها. و لكن بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية تغيرت الموازين الاقتصادية واصبحت الاسرة الدولية اكثر انفتاحاً على بعضها من مرحلة الثلاثينات وبهذا تم اعتبارالنصف الاخرمن عقد الاربعينات هو العقد الاول لانبعاث العولمة.
وبما ان التعريف المباشر والمبسط لمعنى العولمة ( (Globalization هو الانفتاح الاقتصادي والتجاري بين اعضاء المجتمع الدولي، الا ان العقود الثلاثة الاخيرة من القرن الماضي شهدت احداثاً عظمى اثرت على معنى العولمة، وحولت تعريفها المباشر البسيط الى معنى اخر معقد اضافت هواجس كثيرة في مناهج البشر بالاضافة الى الاقتصاد اثرت على قيمه المعرفية والفلسفية والاجتماعية وحتى الدينية والعقائدية، وانتجت مجموعة تلك القيم الجديدة منظومة من التداعيات في الاخلاق والمثل العليا وصولاً الى تبني مناهج فنطازية في الواقع متخبطة بين الدين والسياسة وصلت حد الانتحار والقتل الجماعي والارهاب، وهو انعكاس للمعاناة الفلسفية التي ضاع في معانيها الانسان ليصنع منها مدارس منحرفة في الاعتقاد لتبرير الحصول على المال والسلطة بغطاء ديني.

ثورة المعلومات كانت سبب

كما اسلفت تشكل المنهج المنحرف بعد ثورة المعلومات في نهايات القرن الماضي، والاطلاع الواسع على العالم اظهر الفوارق الطبقية الكبرى بين مجتمعات الشرق والغرب واجج على مستوى الفرد شعوراً بالضغينة وفرت ادوات المعلوماتية عدة الحرب في عصر العولمة.
لكن هذا التيار الكاسح من تشعبات العولمة لا احد يستطيع السيطرة عليه او برمجته للمنفعة القصوى بل بقي تيار خطير كسلاح ذو حدين، وعلى الرغم من ان الدولة الاساسية التي لها الدور الجبار في فسح المجال امام تيار العولمة هي الولايات المتحدة الامريكية، بدأت الدوائر الاستراتيجية منذ عام تقريباً لا تخفي قلقها عما ستفعله العولمة في المجتمع الامريكي، ربما قريباً جداً وحسب توقعات معهد اميركان انتربرايز الذي يعقد ندواته حول العولمة ومسائل الاصلاحات الديمقراطية في العالم يذكر ان (هناك خسارة محتملة لمئات الالاف من المواطنين الامريكان لوظائفهم نتيجة لاستدراج الشركات الامريكية من قبل الخارج واستخدام العمالة الهندية والاسيوية بدلاً من الموظفين الامريكان). وبالقدر الذي يضر هذا التوجه بالمجتمع الامريكي فانه يوفر فرص لحياة جديدة في الاماكن التي ستعمل بها الشركات الامريكية خارج الولايات المتحدة الامريكية. وبما انها دولة متنوعة ومؤسساتية وذات قيم ديمقراطية راسخة فانها لا تمانع بذلك وعلى الحكومة والمؤسسات المخططة ان تضع بدائل لمعالجة الفراغ الذي تتركه الشركات التي استفادت من العولمة.
القلق الاخر الذي يساور الشارع الامريكي هو تراجع السلع الامريكية امام الغزو الواضح للبضائع الاجنبية الرخيصة التي تتماشى مع دخل الفرد الامريكي المهدد، وبما ان الصناعة الامريكية العالية الكلفة نتيجة لارتفاع سعر الايدي العاملة الامريكية جعلت المنتج الامريكي لا يستطيع الثبات في المنافسة امام الاسعار المنخفظة للمنتج الوافد، وقد وصلت الامور مؤخراً الى صناعة السيارات الامريكية التي نافسها الان في الاسواق السيارات الكورية بعد ان فشلت محاولات البنوك الامريكية في عدم منح القروض في حالة شراء بعض السيارات الوافدة مثل هونداي وكيا. في حين تراجعت مبيعات سيارات جنرال موتورزعالية الجودة الى ارقام مخيفة، و تحاول شركة فورد موازنة مبيعاتها عن طريق خفض الاسعار بعد ان نقلت كثير من معاملها ومخازنها الى المكسيك وكندا للتخلص من العمالة والعقارات الامريكية العالية الكلفة التي تحتاجها في معاملها.
عموماً فان العولمة تيار جارف لايمكن الوقوف امامه سواء من قبل الحكومات الدكتاتورية التي تصارع ضد الاصلاحات او من قبل الدول المتقدمة. وتظهر ثورة المعلوماتية الان الثغرات ونقاط الضعف والقوة في نسيج المجتمع الدولي الذي من الممكن استخدام تلك المعلومات من قبل افراد وشركات ومؤسسات وحكومات للبحث عن تسوية لمعاناتها.

عالم على الورق
يسهل علينا الان دراسة واقع الامر بشكل اكثر دقة ومن خلال المسح الشامل لنقاط الضعف والقوة التي نتلمسها في دراسة مناطق العالم الممكن استخدامها باطار التغطية المعلوماتية.
والفرصة التي تقدمها العولمة الى شعوب الدول النامية في هذه الفترة الزمنية بالذات تجعل شعوب تلك الدول عاملاً فعالاً في السيطرة على تجارة وصناعة العالم المتقدم.
ففي الوقت الذي تشعر مؤسسات المجتمع الامريكي من القلق على فقدان الوظائف، تجد الدول النامية فرصة لها ان تقدم الارضية الصالحة لاستدراج الصناعات الثقيلة الى بلدانها، ولكن يستبعد ان تكون دول الشرق الاوسط قادرة على الاستفادة من تلك الفرص نتيجة لما تعانيه من حرب الارهاب وعبث الجماعات المتطرفة والمسلحة في ترسيخ الشعور بالكراهية التقليدي ضد الغرب والولايات المتحدة الامريكية، وهو ذات النهج الذي رسخته القيم الدكتاتورية للانظمة الشمولية التي مايزال يحكم الكثير منها دول الشرق الاوسط ولا اعتقد ان الزمن سيوفر فرص اخرى لدول الشرق الاوسط المتاقلمة مع فقرها وتخلفها السياسي والاقتصادي والاجتماعي اذا مالم يعيد النظر مفكروا الشرق الاوسط لايجاد فلسفة توفر الية لانقاذ الانسان الشرق اوسطي مما هو فيه من امتهان وهذا بحث اخر.
اما الدول القادرة على الاستفادة من تلك الفرص فبالاضافة الى الصين والهند والدول الاسيوية الصناعية السبعة المسماة بنمور اسيا بدأت تدخل الى نادي العولمة الان المكسيك، البرازيل، تشيلي والارجنتين باستثناء افريقيا ودول الشرق الاوسط.

عدنان الحلفي