الثلاثاء: 2006.05.16

د. طيب تيزيني

مع اتّضاح الكثير من أهداف النظام العالمي الجديد والآليات التي يتعامل بها مع ما يواجهه من مُعيقات وحوافز، راحت إحدى المسائل ذات الخصوصية المُركزة تطرح نفسها على الباحثين خصوصاً في الدراسات اللغوية والفنية التشكيلية. وكان ذلك -وما زال- متوازياً مع التقدم الحثيث، الذي تطرحه ثورتا المعلومات والاتصالات. وفي سياق هذا وذاك، يلاحَظ اتجاه لغوي يسعى أصحابه من دعاة العولمة اللغوية إلى التأسيس لازدواجية لغوية جديدة مُركزة، وتقوم على التمييز بين لغة العلم ولغة الشعب. فالأولى تتسم بكونها قابلة لأن تكون عالمية الطابع ويُجمع عليها ذوو الشأن من علماء العالم، في حين تُفصح لغة الشعب عن كونها مشروطة بسِمة المحلية. ويضاف إلى ذلك أن التمييز بين اللغتين المذكورتين يمكن بل ربما يجب اختزاله والتضييق عليه، بحيث يتجه صوب تحقيق إجماع على أن يؤسَّس للغة الشعب في بلدان العالم كلها من موقع لغة العلم ذاتها.
فإذا رأى البعض أن لغة العلم لا يمكن أن تكون غير quot;الإنجليزيةquot; -وكان هذا الرأي قد نشأ في مراحل سابقة على نشأة النظام العالمي الجديد- اعتقاداً بأن وحدة الأنساق العلمية الطبيعية والاجتماعية والإنسانية تحتمل إن لم تتطلب وحدة التعبير عنه، فإن البعض الآخر يوسّع دائرة quot;التوحيد اللغويquot; بحيث يطالُ اللغات الشعبية ذاتها. ويلاحظ أن هذا الشِّق الثاني من المسألة برز خصوصاً تحت ضغط الاستحقاقات، التي يقدمها النظام العالمي الجديد- العولمي. فـquot;السوق الكونية الواحدةquot;، التي تمثل هنا نقطة الارتكاز، أخذت تنتج quot;لغتهاquot; العالمية الخاصة، التي يُراد لها أن تهيمن في العالم بمثابتها بديلاً عن اللغات الشعبية المحلية. وهنا، يغدو الحديث وارداً عن هذا البديل على أنه يتجسد في quot;الصورةquot;. وهذا من شأنه أن يفتح الطريق واسعة أمام التأسيس لثنائية الكلمة والصورة، التي بمقتضاها تظهر الكلمة بوصفها quot;لغة المحلياتquot;، من قبيل الوطنية والقومية، وتظهر الصورة من حيث هي quot;اللغة العالميةquot; أو quot;لغة العولمةquot;.
في ذلك المعقِد من المسألة، يفرض السؤال التالي نفسه: هل يحمل ذلك الاتجاه الأخير إمكانية الهيمنة على العالم، في لغاته المحلية القومية والوطنية المتعددة والمتنوعة أشدّ التنوع؟ أو بصيغة أخرى: هل بإمكان quot;الصورةquot; أن تتغلب على quot;اللغة-الكلمةquot;؟
إلى ذلك، يلاحظ أن البشرية، بعد التقدم الذي حققته على الصعيد اللغوي، لم تعد قادرة على العودة إلى عهود عتيقة كانت الصورة والرمز الصوري قد مارسا فيها دوراً في إنتاج وسائل الاتصال المذكورة. ومن موقع فقه اللغة وتاريخها، يمكن القول إن اللغة بعد أن تكوّنت لدى أمة أو أخرى، أحدثت تقدماً هائلاً في حياة هذه الأخيرة. وظهر ذلك خصوصاً حين اتضح أن اللغة ليست مجرد quot;أداة اتصال وتواصلquot;، بل تبين أنها مع النموّ العضوي الذي تحققه في حياة الناس، تصبح quot;نسيجاًquot; من أنسجة المنظومات الفكرية والثقافية والقيمية لدى هؤلاء. وبهذا، يتضح أن إقصاء اللغة من حياة الناس يمكن أن يكون بمثابة التفريط بذاكرتهم التاريخية أولاً، وبإمكانية إحداث تراكم معرفي يحقق -عبر العقلانية الترشيدية والموضوعية خصوصاً- مزيداً من تقدمهم ثانياً.
إن اللغة الدقيقة والغنية بمفرداتها واشتقاقاتها وقواعدها وببساطتها تغدو -والحال كذلك- quot;قوةquot;، قياساً على القولة الشهيرة التي أطلقها الفيلسوف الإنجليزي فرنسيس بيكون، وهي: quot;المعرفة قوةquot;. وإذا كان الأمر كذلك، فإن ما يأتي في أطروحة: الكلمة لغة القومية، والصورة لغة العولمة، لا يمكن أخذه على محمل الجدّ العلمي، في حدّه الأولي. وحيث يتصل الأمر بـquot;اللغة العربيةquot;، فإنه يكون أكثر خصوصية، وذلك لأن هذه اللغة تمثل إنتاج قرون عديدة، مع العلم أن التقدم على الصعيد اللغوي لا يتماثل مع التقدم الثقافي أو الاقتصادي وغيره. فهو ذو وتائر بطيئة تستجيب للنظام المعْجمِي والدلالي والقواعدي، الذي تتمتع به اللغات عموماً، ومن ضمنها العربية.
وفي هذه الحال، يصح النظر إلى أن الدعوة للإطاحة باللغة بوصفها quot;الكلمةquot; لصالح لغة العولمة، quot;الصورةquot;، كأمر هو أميل إلى الاستحالة المنطقية والواقعية، خصوصاً إذا وضعنا في الاعتبار أن اللغة (العربية هنا) إذا ما فُرِّط بها باستبدالها بلغة أخرى أو بـquot;صورةquot;، كما هو الحال في حالتنا الآن، فإن ذلك يعني -على نحو مخصص- التفريط بهُوية حاملها أو حَمَلتها، أو اختراق هذه الهوية بقدر أو بآخر.