في رحيل الأنصاري... فكر عميق ووعي مبدع

ما كنا لنستفيق من ألم رحيل عظيم، حتى يباغتنا الوقت، فيفجعنا الموت برحيل عظيم آخر نمت الكويت ثقافيا وفكريا على حبر قلمه، وسطعت في سماء الثقافة العربية نجما لامعا بفضل جهوده الجبارة مع رفاقه العظماء من جيل المستنيرين من المثقفين والمفكرين الذين وضعوا حجر أساس الثقافة الحديثة في الكويت.
الأستاذ الراحل عبدالله زكريا الأنصاري، اسم غني جدا عن سرد حياته في بضعة سطور، إذا ما قرأناه على عناوين مؤلفاته العديدة واسهاماته المتنوعة التي وصلت إلى أكثر من 14 عنوانا، وساحات شاسعة من النصوص الإبداعية ومقالات نقدية وفكرية وقومية في مجلات خالدة كـ laquo;كاظمةraquo; التي نهل من تنوير مؤسسها أحمد السقاف، والبعثة التي شارك مع مؤسسها الراحل الأستاذ عبدالعزيز حسين في رئاسة تحريرها في الفترة ما بين عامي 1951 - 1954.
إن هذا الإرث ليجعلنا نقف أمام عملاق رائد ومؤسس لنهضة حديثة في الثقافة والفكر في الكويت، مهّد مع أقرانه طريقا صعبا نحو مزيد من الوعي والتحرر من مغاليق الفكر وجمود العقل، بمعنى أنه لم يكتف بأدوات كتابته الأدبية والتوثيقية، بل أضاف إليها خطابا نقديا لظروف الواقع السياسي والفكري الذي تشهده الكويت والبلاد العربية آنذاك، لا سيما وأن الأمة وقتها كانت فوق صفيح ساخن خلال فترة الأربعينات من القرن الماضي حيث حلت كارثة النكبة العام 1948، وبدايات ثورة التحرر القومي في أوائل الخمسينات، والتي انعكست بجملتها على المجتمع الكويتي، لتكون المسؤولية ثقيلة على جيل رواد الثقافة والتنوير في الكويت، في توعية المجتمع من جهة ومجابهة أنصار التخلف والجهل من جهة أخرى.
لقد كان الأستاذ الراحل واعيا بحجم الحاجة الملحة لوجود مؤلفات توثق الأدب الكويتي عبر عدد من شخصياته المبدعة، مما تطلب منه بحثا مستفيضا عن ملامح الفن والإبداع، وتنقيبا مستمرا في الوجوه الإنسانية والفكرية في أعمال هؤلاء المبدعين الخالدين، كفهد العسكر وصقر الشبيب ومحمود شوقي الأيوبي، ليقدمهم إلى القارئ العربي بعامة والكويتي بخاصة، كشواهد على أصالة الإبداع في الكويت، ونماذج دامغة على تجدد الفكر والثقافة والتحرر من أغلال الجمود والتحجر والتخلف ما وصمت به المجتمعات الخليجية في تلك الفترة، من قبل بعض الأقلام العربية البعيدة زمنا وإدراكا عن قدرة الإنسان الخليجي في التأقلم، بل والمشاركة في الحضارة المدنية والثقافة العصرية.
وهذا ما نستشفه من خلال مقالاته في مجلة laquo;البعثةraquo; وإسهابه المتنوع في البحث عن منابع الثقافة والفكر في الكويت، في سرد السيرة الثقافية والفكرية لأبرز شخصياتها، وتغطية أنشطة مؤسسات المعارف والثقافة الوليدة في الكويت، ودعوة عدد من رجالاتها لزيارة مصر والاجتماع مع رواد الثقافة والفكر العربي.
لقد أثرى الأستاذ (رحمه الله) الساحة الكويتية بمشاركاته ومداخلاته في معظم الندوات والمؤتمرات والمنتديات الثقافية التي انعقدت في الكويت على مر العقود الماضية، كتأكيد شخصي من قبله على حضور الجيل الأول من الأدباء والمثقفين لمختلف الفعاليات والأنشطة الثقافية دون تحيز لبيئة وثقافة الماضي من الأجيال السابقة، مؤكدا ضرورة تواصل الأجيال مع بعضها بعضا، عبر مد جسور الثقة والاحترام، بما يرسخ قاعدة الثقافة والفكر، ومبطلا في الوقت نفسه كل نظرات الريبة والتشكيك إلى أصالة وحداثة المشهد الثقافي الكويتي، وهو النابع من رحم الثقافة العربية والإسلامية، ومن بيئة ومجتمع جبل أبناؤه على تعدد أجيالهم في طلب العلم وتقصي روافد الثقافة والفكر.
وأمام رحيل هذا الأستاذ العملاق، فإننا نأمل بل ونطالب المؤسسات الثقافية والإعلامية في تخليد شخصيته، من خلال دورات وندوات ودراسات تتناول جوانب حياته الثقافية والفكرية، دون الاكتفاء فقط بإطلاق اسمه على مواقع أو مجرد تأبين عابر.
لنؤكد استحضار واستدراك هذا الميراث الضخم الذي عهد به الراحل الكبير في ذمتنا والذي نستشعر فيه عمق نظرته السابقة إلى زمنه، والمناسبة لواقعنا الثقافي بما طرحه من آراء وأفكار جديرة بإحيائها والوقوف على عتباتها المفضية لوعي شامل وملم بجسامة وخطورة ما يعانيه المثقف من أزمة وتحديات فرضها أصحاب العقول الضيقة والمنغلقة.
فها هو في مقالته الافتتاحية لمجلة laquo;البعثةraquo; من عدد سبتمبر من العام 1951، والتي جاءت بعد افتتاحيتين لعددين سابقين للمجلة نفسها، عنوانهما على التوالي laquo;تبصّرraquo; وlaquo;تفكيرraquo; يذكر تحت عنوانه الجديد laquo;تعصبraquo;:
laquo;العجيب في الأمر أن المجادل الثائر، لا يرى إلا ما اعتقده هو، غير مبال بحجج خصمه، ولا أدلة مجادله، وما متلفت لها، ولا مؤمن بصوابها، وإن كانت على جانب كبير من الصواب، فما قاله هو ومؤيدوه، هو الحق بعينه، وما قاله مجادلوه، هو الباطل والضلال، فهذه هي العصبية المقيتة، وهذا هو التعصب الذي نعنيه والذي ملك علينا كل مشاعرنا، وهذا هو التعصب الذي أحدث بيننا الهوة، وهذه التفرقة، وهذا التباعد، وما دمنا على هذه الحال، فسوف لا نلتفت مطلقا على العقل، ولا نؤمن بالتفكير الطويل، ولا نحسب للنتائج التي قد تنجم من جراء ذلك، وما تجره وراءها من عواقب وخيمةraquo;.
فأي خسارة فادحة نجنيها بعد رحيل رائد من رواد الوعي المستنير في الكويت، إلا إن عزاءنا الوحيد يكمن في حفظ إرثه الفكري وتجديد النظر في مداركه المعرفية بما يجدد وحي قلمه وفكره وحضوره الدائم بيننا.

فهد توفيق الهندال
[email protected]