لا أدري إن كان ما صرح به الشاعر السعودي عبد الله باشراحيل مزاحاً من النوع الثقيل أم هو حجر ضخم يلقي به في مياه الساحة الشعرية العربية بعد حالة السبات التي يعد (باشراحيل) أحد عناصرها؟! وكنت من خلال من قرأت له في مجموعة من الدواوين والإصدارات التي حصلت عليها عن طريق الصديق الشاعر سيدي محمد متصوراً أن الرجل يتخذ موقفاً ريادياً مثل الشاعر الكبير عبد الله البردوني الذي جمع روعة الكلاسيكية إلى عمق الحداثة، ولكن خاب رجائي ورحت أراجع الحوار الذي أجراه سيدي محمد ذاته في الزميلة quot;الجزيرة نتquot; باحثاً في تضاعيفه عن جملة تشير إلى أن في الأمر لبساً ولكن إصرار باشراحيل على إلغاء نصف قرن من التجربة الشعرية الحديثة، ومن قصيدة النثر تحديداً، ثم مطالبته بإقامة محاكم لمقاضاة الشعراء العرب على طريقة quot;محاكم التفتيشquot; تجعلنا نفكر جدياً في البحث عن محامين من طراز القاضي المصري الذي استعان مؤخراً بقصيدة لنزار قباني لإثبات نسب طفلة لأبيها الفنان المتهور.
لماذا التهور أيها الشاعر؟ فمن ذكرتهم من الشعراء قد نتفق معهم أو نختلف فيما قالوه، أما أن نلغيهم بالجملة برشاش quot;أم سكستينquot; ومن ثم نتهمهم بالعمالة للصهيونية، ففي ذلك خلط في الأوراق وقفز فوق البديهيات وإزاحة لمنطق الحوار.
حقاً نحن بحاجة إلى خلخلة جذرية لخريطة الشعر العربي كالتي دعوت إليها أو تبدت من خلال حوارك، ولكن على أن تكون الخلخلة في الجهة المقابلة لتجارب محمود درويش وأدونيس ويوسف الخال، هؤلاء الذين أنقذوا الشعر العربي من الضحالة والإسفاف والرتابة والنعيق والزعيق وسائر مفردات التباكي فوق الأطلال!
في الواقع ليس محمود درويش بحاجة إلى شاعر قصيدة نثر مثلي للدفاع عنه، وهو لم يكن مضطراً للوقوف في صف هذه القصيدة، خصوصاً عبر المقولة التي أدرجها في ديوانه الأخير quot;كزهر الزهر أو أبعدquot; حين استحضر مقولة أبي حيان التوحيدي quot;أحسن الكلام ما قامت صورته بين نظم كأنه نثر، ونثر كأنه نظمquot;، وهو الذي نام كجده المتنبي ملء جفونه (عن شواردها/ ويسهر الخلق جراها ويختصم) بل قد يكون درويش الشاعر الوحيد بعد رحيل نزار قباني الذي يذكرنا بأن هناك موهبة شعرية كبرى مرت في هذه الأمة اسمها المتنبي، وعندما قال درويش في تونس قبل أقل من عام إن المتنبي أكثر حداثة من شعرائنا مجتمعين فقد كان يعني أنه لم يعد يوجد شاعر سواه في عصرنا الآن يقارن بالمتنبي!
سوف لن أستدعي قصيدتي quot;بيروتquot; أو quot;الجداريةquot; رأفة بهما في هذا المقام، وحسبي أن أورد هذا المقطع لدوريش من قصيدة quot;السروة انكسرتquot; التي يسخر فيها من كل أولئك الشعراء والنقاد المحنطين الذين جعلوا من الرمز إلهاً يتعبدون في محرابه، وهو بكل بساطة يعيد العادي إلى العادي والأصل إلى أصله الواقعي الجميل، معترفاً مثل غوته بأن الواقع أكثر عبقرية:
quot;وقالت امرأة لجارتها:/ ترى، شاهدت عاصفة/ فقالت: لا .. ولا جرافه/ والسروة انكسرت/ وقال العابرون على الحطام/ لعلها سئمت من الإهمال/ أو هرمت من الأيام/ فهي طويلة كزرافة/ وقليلة المعنى كمكنسة الغبار/ ولا تظلل عاشقين/ وقال طفل: كنت أرسمها بلا خطأ/ فإن قوامها سهلٌ/ وقالت طفلة: إن السماء اليوم ناقصة/ لأن السروة انكسرت/ وقال فتى: ولكن السماء اليوم كاملةٌ/ لأن السروة انكسرت/ فقلت أنا لنفسي: لا غموض ولا وضوح/ السروة انكسرت، وهذا كل ما في الأمر/ أن السروة انكسرتquot;.

د. عبد الله باشراحيل .. لو سمحت، لم يبق لنا غير محمود درويش في هذا الخراب!