لو إفترضنا جدلاً أنه تم إتفاق بين العرب وإسرائيل على تطبيق خطة خارطة الطريق وتم تبني المبادرة العربية للسلام التي أعتمدت في قمة بيروت العربية عام 2002م وحل السلام ربوع المنطقة، ولو إفترضنا أن هذا السلام الذي تصورناه نشأ عنه تفاهمات بين جميع الأطراف وتم الإتفاق على حق العودة وعاد الجميع من عرب ويهود الى فلسطين، وأردنا ان نتصور التعداد السكاني لكل من العرب الفلسطينيين واليهود بعد مائة أو مائتي عام وهنا يبرز السؤال التالي، هل مساحة فلسطين التاريخية ستتسع لكل هذا العدد من السكان وأحفادهم وذرياتهم؟.
الجواب بالطبع سيكون بالنفي وعليه لابد من التفكير في إيجاد حلول إبداعية وهي كثيرة ولكن من يجرؤ على الكلام، فمثلاً إذا زادت نسبة السكان لابد من زيادة نسبة المساحة، ولكن المساحة حسب التقسيمات الإستعمارية غير قابلة للنقاش حولها لماذا؟ لاندري بل هذا ماوجدنا عليه آباءنا وأجدادنا ويحضرني قول إبراهيم عليه السلام لقومه بقوله : ( ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون ) !، وهذا يدعونا للتأمل والتفكر في كثير من الأمور التي نواجهها يومياً ولا نتفكر فيها قيد أنمله على الرغم أن التفكير فريضة إسلامية.
إذاً لابد من التفكير بطريقة عملية واقعية تتناسب وروح العصر فالحرب بين العرب وإسرائيل ستظل مستمرة مالم يجلس الطرفان والقوى الفاعلة والمؤثرة وبقناعة تامة وبنزاهة وحياد تام في عملية عصف ذهني لشحذ الهمم والأفكار والعمل على مفاوضات طويلة الأمد حتى نخرج بتصور يرضي جميع شعوب المنطقة وليس بالضرورة يرضي غرور قادتها وزعماؤها الذين يبحثون عن نجاحات شخصية تمجد أسماءهم تاريخياً ولو على حساب دماء وأشلاء الشعوب.
ولن أدخل هنا في دور التنظير والتأطير ولكن سأذكر أمثلة من التاريخ المعاصر وكيف أن دولة أوروبية عملت خطة للتوسع بضم أجزاء من المحيط الى أراضيها وتنجز كل سنة جزء وهكذا، ومن الأمثلة أيضاً ماقام به الإتحاد الأوروبي من خطوات ناجحة في توحيد القارة الأوروبية وهي خطوات إيجابية في الطريق الصحيح عندما عمل على توحيد القارة وسمح بحرية التنقل والعمل رغم الإختلاف في اللغات والثقافات التي يتكون منها المجتمع الأوروبي.
أما الدول العربية مازالت في صراع على كل شيء الأرض والحدود والثروة والإنسان وغير ذلك، وفي خضم إيجاد حلول لهذا الصراع بين العرب واليهود نادى الكثير من المفكرين والقادة والزعماء وقاموا بمبادرات ولكن أي منها لم تجد طريقها الى النجاح، وهناك من نادى بقيام دولة واحدة بقوميتين، ولكن جميع المؤشرات الحالية والمستقبلية المنظورة تدل على صعوبة تعايش الشعبين إن لم يكن من المستحيل أن يتعايشا في دولة واحدة بقوميتين.
وفي حالة إستمرار العداء بين شعوب المنطقة يستمر النزاع وتستمر المقاومة ويستمر التفكير والتفكير المضاد الى مالا نهاية له، وهناك من الأعمال التي تعتبر إيجابية من وجهة نظر هذا الطرف ووحشية من وجهة نظر الطرف الآخر ولنضرب لكم مثل، إن ماتفكر به إسرائيل على المدى الطويل ما يسمى quot;بخطط الترانسفيرquot; أي الترحيل الجماعي للفلسطينيين الى دول الجوار بدلاً من التفكير في سبل العيش المشترك على هذه المساحة الجغرافية المشتركة وإن كانت هذه المساحة بحاجة الى أن تكبر بضم مزيد من الأراضي التي ينبغي التفاهم مع دول الجوار بشانها.
هناك بعض المفكرين نادى بفكرة تبادل الأراضي لإصلاح التداخل الديموغرافي والجغرافي فمثلاً إذا أردنا المحافظة على أبناء قطاع غزة وأبناء الضفة الغربية في كيان مستقل لابد من تبادل أراضي بين جميع دول الجوار وبطريقة ترضي الجميع حتى يمنع أي إحتكاك أو نزاع بين اليهود والعرب على شبر واحد من الأرض بعد هذا الإتفاق وطبعاً هذا الكلام لن يرضي بعض العرب كما لن يرضي بعض اليهود ولكنها الحقيقة التي لاشك فيها إذا أريد لهذا النزاع أن ينتهي بعمل حدود دولية آمنة لجميع الأطراف تضمنها الأمم المتحدة حتى لو أعيد تشكيل خارطة المنطقة بأكملها.
كما ينبغي إعادة النظر في كثير من القوانين الجائرة التي يعمل بها حتى الآن حتى تستقر الأمور وذكرنا في مقال سابق بإن الدول التي تسعى الى إيصال المساعدات للشعب الفلسطيني عليها أولاً أن تعمل على تحسين أوضاع اللاجئين الفلسطينيين على أراضيها لأنه الأسهل، وثانياً تعمل على تفعيل الطرق الدبلوماسية لتقديم المساعدات لأبناء الأرض المحتلة في فلسطين وهو الأصعب أما من يحاول تطبيق قوانين أشبه بقصص الطفولة فهذا شيء آخر.
كما ينبغي الإتفاق على بعض المسلمات ومنها عدم إراقة الدماء وعدم تجريف وتدمير وإتلاف الأراضي الزراعية أو إبادة المزروعات بل المحافظة على البيئة بكل أشكالها أي كان مالكها يهودي أو عربي فهي مكتسبات حضارية ينبغي الحفاظ عليها في اطار سياسات عامة توضع لهذا الغرض كما ينبغي عدم إفراغ السكان من أماكن وجودهم سواء لتهويدها أو لتنصيرها أو لأسلمتها وهم سكانها وعاشوا فيها قرون لأن ذلك من شأنه أن يزيد من حالة الإحتقان والكراهية بين الشعوب.
كما ينبغي العمل على إيقاف سياسة الترانسفير التي تنتهجها إسرائيل بأشكالها المختلفة والعمل أيضاً على عدم توسيع المستوطنات وتوسيع المناطق المغلقة عسكريا وهذا مايحدث في كثير من الأراضي سواء في النقب أو في قطاع غزة أو في الضفة الغربية، كما ينبغي العمل على عدم تهميش أي من الأطراف للطرف الآخر أو إخراجهم من سوق العمل أوتقليص المخصصات والمراعي كما ينبغي العمل أيضاً على التصدي للبطالة المتفشية بين شعوب المنطقة بأكملها.
كما ينبغي العمل على إستصدار قوانين تمنع إغلاق الحدود بشكل محكم مع باقي الدول لدعم التواصل الاجتماعي الإنساني بين جميع سكان المنطقة وشعوبها عملاً بقوله تعالى laquo;يا أيها الناس أنا خلقناكم من ذكر وانثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إنّ أكرمكم عند الله أتقاكمraquo; (الحجرات ـ 13). والعمل على الإصلاحات الديموقراطية والتخلي عن السياسات العنصرية بين شعوب المنطقة والمحافظة على المواطنة الحقيقية لشعوب المنطقة لوضع حد للأعمال الإرهابية بكل أشكالها.
كما ينبغي العمل على التخلي عن السياسات التي تدعي الحصانة القومية لأي دولة من دول المنطقة على حساب دولة أخرى وبدلاً عن ذلك العمل سوياً على رسم معالم سياسة أكثر إنفتاحاً بين شعوب المنطقة لإستشراف المستقبل وإيجاد حلول عملية لجميع المشاكل العسكرية والأمنية والاجتماعية والاقتصادية وأن يعمل المخططون على إيجاد مشاريع مشتركة لتطوير علاقات شعوب المنطقة بعضهم ببعض وبمحيطهم العالمي أيضاً.
كما ينبغي أن لا يسمح بنشوء جماعات متطرفة في تفكيرها سواء كانت من اليمين أو من اليسار وإنما إعتماد الوسطية والإعتدال في كل مايخص شعوب المنطقة، وكما ذكرنا سابقاً ماهو المانع من إعادة تشكيل خارطة المنطقة وتبادل الأراضي لتعيش شعوب المنطقة في المكان الذي ترغب فيه من أجل تحقيق مصير التسوية السلمية للوصول الى سلام شامل بناء على مفاوضات طويلة الأمد تشارك فيها جميع قيادات شعوب المنطقة وأطراف دولية أخرى.
إن إعادة النظر في رسم حدود دولية جديدة لجميع دول المنطقة سينهي الصراع القائم بين هذه الدول لقرون، وتكمن أهمية هذا المشروع في تعديل قوانين المواطنة أيضاً ويكون فيه كل مواطن ملزماً بأداء قسم الولاء للدولة التي ينتمي لها ولأمنها وقيمها ورموزها ونشيدها الوطني وكل من يرفض ذلك يفقد حقه بالمواطنة ولا يكون له حق الانتخاب والترشيح أو القيام بالخدمة العسكرية كما ينبغي العمل على رسم سياسات جديدة للإندماج بين شعوب المنطقة والعمل على منع إقامة أي فاصل بين شعوب المنطقة على غرار الإتحاد الأوروبي.
وإذا كانت الشعوب هي التي تقرر مصيرها فينبغي العمل على إقامة مشاريع إقتصادية مشتركة وبنى تحتية كخطوط النقل والموانئ والمطارات لينتهي الصراع على الحدود أو الأطماع التوسعية للقادة الذين يؤججون الصراع بين الشعوب لمصالح شخصية وهناك أمثلة من تاريخنا المعاصر لمسائل الإتفاق على ترسيم الحدود بالمفاوضات والطرق السلمية وليس بالحروب والنزاعات العسكرية المسلحة كما حصل في مسألة ترسيم الحدود بين السعودية واليمن والسعودية وقطر وبين الأردن وسورية.
ان مساحة اسرائيل وفلسطين كدولتين معاً لا تعد شيئاً ازاء مساحة العالم العربي البالغة 14 مليون كيلومتر مربع وبالتالي لا بد من اسهام الدول العربية في حل مشكلة المساحة الجغرافية للدولتين ولاسيما أن العراق اليوم مهدد بالتقسيم، لذا لابد من الإتفاق على أسس وسياسات تبادل الأراضي لصالح شعوب المنطقة وإيجاد حل حاسم بينها والقبول بفكرة التعايش السلمي بين شعوب المنطقة ومساعدة إسرائيل في التحلل من عقدة الخوف التي تساور شعبها إزاء الدول العربية المحيطة بها على الرغم أن هذا المحيط عاجز عن القيام بأي شيء لمصلحة شعوب المنطقة عوضاً عن القيام بعمل عدائي ضد إسرائيل.
مصطفى الغريب
شيكاغو
التعليقات