في العربية فإن معنى (المدينة) يشير إلى الاستقرار، ويأتي المعنى من لفظ (مَدنَ) أي أقام. ولكن هذا المعنى يشمل الاستقرار في الحاضرة، مثلما هو معنى القرية. وقد سميت المدينة الإسلامية بالقرية، والقرية من القرى أي التضييف، وهي سلوكية ذات تقدير عالٍ في مجتمع يعيش ظروفاً حياتية صعبة أو مستحيلة في بيئة طبيعية قاسية. وقد تطور المفهوم إسلامياً ليصبح (أم القرى) أي الوسيط المسؤول ليس عن الضيف (الغريب أو الآخر) وإنما عن القرى الأخرى. وهي البداية في تكوين الدولة().
أما في العالم الغربي (والإغريقي بالذات) فقد سميت المدينة (Polis) ومنها اشتقت كلمة (Police) أي شرطة. ومنها شـاع المثل الاجتماعي الغربي (Police Yourself) أي اضبط نفسك ومدّنها، أي إن الفرد في داخل المدينة يحتاج إلى سلوكيات منضبطة وفقاً للقانون.
وليست كلمة (Police) هي الكلمة الوحيدة التي تعني المدينة. فالحاضرة الأثينية Cite كانت أوسع من مدينة أثينا. فهي تشمل بالإضافة إلى العاصمة الريف المجاور الموشى بالقرى والمزارع. إن هذا المجموع هو الذي يشكل مدينة أثينا (Attique). إن العلاقة الكلامية بين المدينة والدولة، محققة باللاتينية بواسطة كلمة ريسبوبليكاRespublica بمعنى الأمر العام. إن تعبيرStatus مأخوذ بحدِّ ذاته من فكرة الاستقرار، فهو لوحده يعني الموقف أو الوضع القائم. لكنه يبدأ بأخذ معنىً سياسياً مع تعريف الشيء العام().
وعلى الرغم من اختلاف التسميات في المجتمعات حضارياً وحاضراً، فإن المدينة (هي التجمع الكبير المنظم) إنما مثلت جسر التحول في الاجتماع الإنساني، لأنها مثلت البوتقة التي انصهرت فيها (مكونات السلوك الاجتماعي غير المتناسبة، مثل العائلة والجماعة المحلية والسوق والعشيرة والمدرسة والدولة)().
يؤكد أستاذ السوسيولوجيا الكبير د. علي الوردي على (أن الحكومة، أو الدولة بمعناها الأعّم، لا تنشأ عادة إلا في الحضارة. فمن النادر أن نجد دولة تنشأ في الحياة البدوية أو البدائية. فالدولة لا تنشأ إلا في المجتمع الذي ينتج أكثر مما يستهلك. فالدولة تقوم على جباية الضرائب عادة. والمجتمع لا يستطيع أن يدفع هذه الضرائب إلا إذا كان إنتاجه الاقتصادي أكثر من حاجته المعاشية. وهذا أمر لا يتم إلا في الحضارة حيث يكون الإنتاج وفيراً ومنظماً. ومن الصعب جداً أن تظهر الدولة في الصحراء) (). هكذا يؤكد الوردي، بعد أن يشير إلى أن معدل الإنتاج فيها، يكاد لا يكفي لسكانها المتزايدين.
ذلك أن المدن هي ظاهرة تجمع سكاني يكون مهيئاً لخلق حياة مستقرة (مجتمع) متجاوزاً التفتيت الذي تمثله المجتمعات المحلية Communities والقبائل، إنما عرفته الحضارات القديمة التي بدأت من نفر في الوسط وأور في الجنوب وصولاً إلى آشور في الشمال وهيت في غرب العراق().
على الرغم من أن أحد أهم السمات التي ميزت ظهور الدولة السياسية الحديثة كان محاولة إزالة الفروق بين الحياة في المناطق الحضرية والحياة في المناطق الريفية().إذ أن صناعة المواطنة التي اختفت خلف مبادئ ثبت عدم جدواها في مجال تأصيل الانتماء إلى المدينة أو القرية التي تشكل جزءاً من الكل، الوطن، ومن ثم المنطقة لنشكل في النهاية انتماءنا إلى الوطن بأكمله، الذي يتكون في النهاية من مجموعة من المناطق والمدن والقرى التي لا يمكن أن نفعل ارتباط الأجيال بها وبأرضها من أجل قيام كيان الوطن الذي يضم في جعبته كل ذلك التاريخ المتراكم للوطن بأكمله.
أما في العراق، فإن المدينة تمتد إلى حضاراته الأولى، والسومرية منها بالتحديد، وقد كانت عملية التحضر Urbanization، ملازمة للمدينة العراقية، وقد تمثلت أهم سمات التحضر بـالوجودات الثلاث الآتية:
وجود الدولة سياسياً.
وجود المصالح اقتصادياً.
وجود الثقافة اجتماعياً ().
وعلى الرغم من إن عملية التحضر كانت في الواقع عملية تحديث لمجتمع زراعي انتقل من أشكال التنظيم القرابية التقليدية، كالقبائل والعشائر، وبيوتات الأشراف والأعيان، والأصناف الحرفية، إلى مجتمع يعتمد معايير الثروة والتعليم الحديث، من دون أن يفقد ماضيه التقليدي بالمرة. فهو مجتمع انتقالي، تتجاور فيه الطبقات الحديثة، مع الفئات التقليدية، وتقع بين الاثنتين فئات وسيطة تحمل شيئا من هذا وذاك. ترعرعت طبقة من التجار والصناعيين والمصرفيين والمقاولين في قطاع خاص، على أساس اقتصاد السوق، وباتت قوة مجتمعية يحسب لها حساب. كما نشأت، قبلها، طبقة قوية من كبار ملاك الأرض().
فقد أدت عمليات التحديث، أيضاً، إلى نشوء طبقات وسطى تعتمد بالأساس التعليم الحديث، مثلما تعتمد على الملكية ورأس المال في جانب. وتبلورت طبقات عاملة في الصناعات الحديثة، وطبقة فلاحية معدمة في الأرياف. بإزاء نشوء الثروة الاجتماعية كمجال مستقل نسبياً، نمت أيضا اتحادات وجمعيات وحركات اجتماعية، تعبر عن هذه المصالح، وتذوِد عنها، ضاغطة على المجال السياسي.
وبموازاة ذلك أيضاً، ازدهرت بشكل نسبي صحافة ومجال معلوماتي غير حكومي. عملية التحضر هذه انقطعت في حقبة الحكم العسكري (1958-1968)، وتشوهت تماماً في حقبة الحكم الشمولي (1968-2003)().
لكن عملية التحضر هذه ستنسحب من المدينة في العراق، لتفسح المجال لقيم التريّف (متمثلاً بفاعلية العصبية القبلية ونوازعها، ووجود الجماعات ما قبل الحديثة، والفاعلة في حياة الأفراد، مثلما هو وجود الاقتصاد المتخلف). فقد دخلت متغيرات الريف إلى المدينة العراقية مع موجات الهجرة إلى المدن الكبرى في أربعينات وخمسينات القرن الماضي. ذلك أن عملية التحضر في العراق تحولت من عملية تمدين الريف وتحضيره، إلى عملية ترييف المدينة.
ويعود ذلك إلى أن (مدينة الخدمات Service City) التي يفترض أن تسع للمهاجرين من الريف، لم تستوعبهم في منظومتها الديموغرافية، ولم تستوعبهم في نسيجها الاجتماعي، بل تركتهم (متذرّين Atomized) خارج ثقافة المدينة، وأيضاً خارج البنى الريفية في الوقت ذاته().
إن عجزُ الدولة عن توفير العمل أو الخدمات الأساسية اضطر مئات الآلاف من البشر المتكومين بعضهم فوق بعض إلى التماس النفوذ لدى جذورهم التقليدية من جماعات فاعلة (العائلة والعشيرة والقبيلة)، ومرجعيات فاعلة (الدين والطائفة والأثنية). لقد حدثت هجرة واسعة في القرن الماضي من الريف إلى المدينة، لكن بسبب غياب عوامل الصهر والاندماج في المجتمع المدني ظل (البدوي/الريفي) الذي تحول إلى (مدني) مرتبطاً بالعشيرة وشيوخها وتقاليدها ارتباط قوياً ومهيمناً.
د. علي وتوت
باحث في السوسيولوجيا
[email protected]
التعليقات