بدأت اليوم محاكمة الرئيس العراقي السابق واعوانه بتهمة ارتكاب جرائم الانفال المعروفة، وهي بحق جرائم وليس جريمة، فجريمة تتحرك لتمحو من الوجود مئات الالاف من الدور والكنائس التاريخية والاديرة الموغلة في القدم والجوامع، لتدمر الاف القرى، بما تحتوية من الزرع والترع ولتقتل مئات الالاف من البشر. لا يمكننا ان نجد سببا لكل ما اقترف في الانفال، لانه ليس بمعقول ان يكون هناك سببا لقتل الاطفال الرضع ما دون السنة والسنتين وغيرهم وغيرهم، هل يمكن ان نجاري البعض للبحث عن السبب ونحن نعلم هذا، ام ان هذا البعض الذي يحاول تبرير العمل باسباب يتعلل بها قد تجلدت وتجمدت لديه المشاعر والاحاسيس الانسانية فراح يتعلل باسباب وهمية.

لقد اراد النظام وبكل صلافة الانتقام وتركيع الجميع لكي يتوسلوا منه الحياة، لقد تجبر وطغى بلا حدود وترك لنا ارثا ضخما من المشاكل والعوائق والالغام التي لا تزال تنفجر في وجه العراقيين ولكنه يتمتع بمحاكمة عادلة، ففي الوقت الذي لم يسمح لضحاياه حتى التوسل، وبعض الضحايا لم لم يكن لديه حتى القدرة على تأليف جمل التوسل، لا بل ان لم يكن لديه القدرة للنهوض والسير فقد كان في لفائف القماش لانه كان لا يزال رضيعا، وبعض الضحايا كان قد خباء نور العينين لديه لانه عاش حتى بلغ العتيا من العمر، هولاء الضحايا لم يتمتعوا باي وسيلة للتذرع لقاتليهم، وهاهو رأس النظام واعوانه ومنهم الكيمياوي يتمتعون بمحاكمة عادلة ولهم هيئة دفاع لتدافع عنهم.


محاكمة صدام لن تعيد الضحايا، ولكن من الواجب تعرية الكل وكشف كل ما حدث وعرضه بالصور والكلمة لكي يدرك الجميع كم كانت جرائم الانفال بشعة، فالجريمة اساسا بشعة والا لما سميناها جريمة، ولكن ان تكون جرائم خطط لها لكي تبيد شعب منطقة باكمله، جريمة طالت الجميع لم تستثني احد، جريمة قال الكيمياوي لما تضخمون فكل القتلى هم بحدود مئة الف وليسوا مائة وثمانون الف، اذا مئة الف ليسوا شيئا لدى الكيمياوي، فالجريمة امر عادي، ولكن العدد قد يعني الدية التي تدفع، وهذا هو مفهوم نظام صدام ومفهوم اعوانه للحياة وللكرامة، اقتل واجعل الجميع يسكتون بدفع الدية او الفصل بالمفهوم العشائري الذي سيرت به الدولة العراقية لعدة عقود، فصدام كان رئيس عشيرة وكل العراقيين من رعيته ومن حقه ممارسة سلطته عليهم ولو بالقتل والسحل والتعذيب فطويل العمر عادل وكلمته قانون وعدالته صارمة لحد البتر والبتر طال شعوبا، لقد حسب ومارس دور ظل الله على الارض، وكان ما كان من الجرائم مسكوت عنها في عالم الاعراب، فالكل سواسية في الممارسة ولا كرامة الا لمن في السلطة.


هل سيتم كشف كل البشاعات التي مورست اثناء الانفال، وهل ان كشفت سترتعش شعرة في جسد كل الصداميين من المحيط الى الخليج، كل التبريرين من الخليج الى المحيط، لا نعتقد بذالك، لان ما مارسه صدام لم يكن نتاج فورة غضب او ثورة انية بل كان نتاج ثقافة بشعة تستمد جذورها من التراث والارث، والا فكيف بعد كل ما حدث تستمر الممارسات وتحت الشعارات المعروفة للجميع وتلقى التأيد والمباركة وتسمى مقاومة.


يمكن ان تطول المحاكمة وهذه من سياسة الدفاع، لان المجرمين متمسكون باالحياة وبلا حياء، ولكن ان تكشف طينة هذه الطبقة العفنة وتتعرى امر ضروري لا بل اكثر من ضروري لكي يعي الجميع كيف يجب ان يكون الحكام، وكيف ان على الحكام ايضا قانون وهم ليسوا بالمستثنين من ذلك، فالقانون يجب ان يطال الجميع وان طال الزمن، كما طال بهذه الفئة الضالة.


ان المحاكمة بنظري ستكون قاصرة ان طالت الاشخاص فقط، فالمطلوب محاكة قيم وطروحات واراء بررت او ساعدت على حدوث ما حدث، فلكي نجتث الجريمة من الاساس علينا ان نجد ما سوغ لها او سهل حدوثها، انه الفكر الشمولي والذي يولد اناسا مشوهين يقررون مصير الناس بلحظات وبلا ادنى تردد، فكر ولد اناس اعتبروا انفسهم فوق الجميع وكلمتهم يجب ان تطاع استنادا الى منبتهم وليس الى امكانياتهم او قانونية كلمتهم، فالقانون كان مغيبا وملغيا عندما كان يتعلق الامر بالفئة الحاكمة او باعوان رأس النظام، القانون الشكلي كان فقط يمارس لحل بعض الاشكالات التي تقع بين افراد الرعية فقط اما اعوان النظام وحاشيته فما طالهم القانون لانهم فوقه.


المحاكمة بما تمثله من حق المتهمين للدفاع عن انفسهم يجب ان تبنى نمط جديد كل الجدة في النظام القانوني وفي نمط ممارسة السلطة، لانه بلا هذا يعني اننا لم نتعلم شيئا من الانفال وكل جرائم صدام الاخرى.


الجرح العميق الذي احدثته الانفال، سيبقى كذالك جرحا غير ملتئم جرحا ينزف على الدوام، ما لم يدرك الجميع ان هظم الحقوق هو بجد ذاته جريمة كبرى، ما لم يدرك الجميع ان الغفران والنسيان يجب ان يليا طلب المغفرة ونقد الذات والتخلص من كل ما يعيق التعايش الانساني وكل ما يبنى عل التمايز بين البشر على اساس الدين واللغة واللون، يتطلب نبذ العنصرية والتعالي المستشرية في الفكر العروبي، يتطلب تبني خطاب انساني رحب.


الانفال لم تكن جريمة بحق الكرد والاشوريين فقط بل هي جريمة بحق كل العراقيين وكل الانسانية لانها طالت قيم انسانية، فعلى الجميع ادراك ذلك، فيوم سكتنا عن سميل المذبحة التي طالت الاشوريين عام 1933، ويوم سكتنا عن حلبجة وغيرها وغيرها فتحنا الباب واسعا امام الانفال وامام ما اقترف في انتفاضة عام 1991 وما تلاها، ان قيمة الحياة وقيمة الكرامة التي تم اغتيالها في الانفال وسكت عنها كانت قيم تهم الانسانية كلها، فسكت البعض عنها وبررها الاخرون مما زاد من الم الضحايا ومن انينهم والضحايا هنا كانوا من اقرباء الضحايا الحقيقين لانه لم يترك مجالا لاي احد لكي يئن ويتألم في الانفال، فالكرد كلهم كانوا ضحايا والاشوريين كلهم كانوا ضحايا لانهم شعروا ان لا احد يستشعر الامهم ولا احد يسمع انينهم.
وفي الختام ليس علينا الا ان نقول ناموا قريري العين ايتها الانفس البريئة، فقد جاء اليوم الذي سيؤخذ بحقكم من قاتلكم وان طال فقد اتى.

تيري بطرس