الدبلوماسية الدولية.. غياب متعمد

منذ بداية الازمة بين لبنان واسرائيل وحتى قرابة الثلاثة اسابيع حاولت الدبلوماسية الاقليمية والدولية ان تغط في نوم عميق عن فتح باب المبادرات والحلول السياسية بغية فسح المجال امام الرد الاسرائيلي من اجل القضاء على ما يعتقده الكثيرون انها ورقة ايرانية، كان الجميع يامل من المؤسسة العسكرية الاسرائيلية المتفوقه جدا ان تقلب الطاولة على رؤوس قيادات ومقاتلي حزب الله، لكن الايام وحتى الاسابيع مرت ولم يفقد الحزب زمام المبادرة فهو بعد ان استوعب الصدمة استفاق وحاول ببرودة اعصاب حاول ان يلعب باوراقه واحدة تلو الاخرى بعد ان احرقت اسرائيل جميع ما لديها من اوراق منذ اليوم الثاني، اما قبل ذلك فلم يتحرك احد الا ما قامت به رايس في زيارة الى لبنان استغرقت ساعات لم تكن على جدول اعمالها اصلا، في هذه الزيارة ( التي جاءت من اجل دعم اسرائيل وتقديم القنابل الذكية لها ) قدمت فيها وزيرة الخارجية الامريكية مبادرة هزلية لذر الرماد في العيون وفاتحت الحكومة اللبنانية بانها يمكن ان تنتظر لساعتين اضافيتين من اجل ان تسطحب معها الجنديين الاسيرين وهي في طريقها الى اسرائيل ووعدت بانهاء الحرب حين تحقيق ذلك، ان هذا النوع من المبادرات يعرف الجميع انه عبثي وتعجيزي بعيد جدا عن الخيارات المنطقية.

وسوى تلك المبادرة فلا مجلس الامن قد اجتمع ولا حتى الجامعة العربية، فسكت الكبار جميعا وتبعهم الصغار ولسان حال الجميع يشهد بان لا صوت يعلو فوق صوت المعركة، لكن الدبلوماسية بدات حراكها الجاد بعدما استيقظ الجميع على مفاجئات حزب الله العسكرية وقدرته الميدانية القوية بغض النظر عما اذا كانت الاسلحة التي يستخدمها حزب الله ايرانية ام سورية او هندية او حتى جاءت من كوكب اخر طالما تؤدي الغرض بكفاءة عالية.

سوى دعوات التهدئة لم نشاهد جولات دبلوماسية مكوكية بمستوى الحدث كما هو الحال في ازمات من هذا النوع، وهذه المواقف تعكس استراحة دبلوماسية مقصودة لاهداف كثيرة تتفق على بعضها الاطراف الدولية والاقليمية وحتى بعض القوى اللبنانية ويختلف هؤلاء جميعا على بعضها الاخر.. لكن غياب المبادرات السلمية لا يعني غياب الادانات، فالسكوت لم يكن سيد الموقف بل سعت بعض البلدان العربية لادانة حزب الله صراحة وتاييد اسرائيل بعد دخول التنين الايراني بقوة الى منطقة الشرق الاوسط، وهكذا اتفقت العديد من الدول العربية على ادانة عملية حزب الله واعتبارها ليست سوى مغامرة غير محسوبة، وهذا ما اشار اليه رئيس الوزراء الاسرائيلي اولمرت في تصريح له حينما قال:ـ (لاول مرة تقف الى جنبنا دول عربية في المعركة ضد دولة عربية).

وبعد ان تعادلت الكفة على الارض بين الاطراف المتحاربة تحركت رايس مرة اخرى الى المنطقة وصرحت اثناء زيارتها الثانية الى اسرائيل ( على مسافة زمنية لم تتجاوز اسبوعا واحدا ) : آن الاوان لوقف اطلاق النار. هكذا تحركت الدبلوماسية الدولية... والذي تحرك فيها لاعبان رئيسيان هم الولايات المتحدة من جهة وفرنسا من جهة اخرى، الهدف واحد وان اختلفت الاليات لكن المناسبة هذه المرة ليست الملف العراقي الذي يعرف الجميع طبيعة الفجوة والندية التي حدثت بين الطرفين سواء في اروقة مجلس الامن او حتى حلف شمال الاطلسي قبل الحرب على العراق.. وكما اصبح الملف العراقي مثار جدل بينهما لملم الملف البناني شتات الفرنسيين والامريكيين، فالطرفان يتفقان على دعم قوى 14 اذار وعلى تضييق الخناق على حزب الله ومن ثم نزع سلاحه، وكما ان امريكا راعية حقيقية لاسرائيل وهنالك تبادل ادوار كبير وواضح بينهما فان فرنسا من جهتها تُعتبر راعية للبنان البلد الذي يوفر لها قدم مهمة في الشرق الاوسط بعد ان سيطر الامريكيون على كل شئ هناك، كما ان لبنان دولة منضوية تحت التحالف الفرانكفوني الذي ترعاه فرنسا، هذا ناهيك عن ان سمعة فرنسا الطيبة في الشرق الاوسط تمكّنها من لعب دور الوسيط، من هنا تقدمت فرنسا بمسودة قرار طويل عريض تعرض لتعديلات كبيرة مرة لصالح هذا الطرف ومرة لذاك، لكنه على كل حال لن يترك لحزب الله نصرا على طبق من ذهب، فالدبلوماسية ودهاليزها ظلام دامس ومن لا يجيد استخدامها ( بكل تاكيد ) لا يصل الى نهاية النفق، وحتى هذه اللحظة لازال القرار(1701) يمشي على استحياء على صعيد انهاء الحرب فهناك احتلال لجنوب لبنان وهناك محاولات اسرائيلية لخرق القرار بين الحين والاخر، كما ان ملف القوات الدولية حتى هذه اللحظة يمشي بساق مقطوعة، وهذه المعطيات جميعها اضافة الى اشكالية التفسيرات التوظيفية للقرارات الدولية بين الاطراف المتنازعة يجعل الازمة تسير على طريق وعرة وبالتالي قد تنشب الحرب من جديد في اية لحظة، لكن حقائب الدبلوماسيين ربما تحفل بمزيد من الحلول الاكثر جدية لجميع الاطراف... جميعا نتمنى ذلك.

يتبع

جمال الخرسان

كاتب عراقي

[email protected]