نحن إما جثث في انفال أو عسكر في ارتال رتل وراء رتل ونهتف من شعار إلى شعار ونسبح بحمد من يأتي أو في سجلات منظمة العفو الدولية مفقودون أو معتقلون !! ربما الحديث هذا بالنسبة لي يعد أمرا صعبا قليلا وجدانيا على الأقل ! لأننا لا يمكن أن نتحدث عن هذه الظواهر دون المرور بالقائد العربي جمال عبد الناصر الذي ألهب فعلا الشارع العربي، والميزة هنا أننا نجد أنفسنا شئنا أم أبينا نقارن بين جمال عبد الناصر وصدام والأسد..الخ وهذا يشكل قلة أمانة من زاويتين :
الأولى : أن عبد الناصر رحمه الله كان فعلا صاحب مشروع قومي وكارزماتي حقيقة، لم يخرب مصر ولم يتاجر بوحدتها الوطنية..الخ
والثانية : وهي الأهم بالنسبة لي أن الرجل كان إلى حد ما مثالا لنظافة اليد فلم يتطاول على المال العام لا من أجله شخصيا ولا من أجل عائلته رغم فساد قسما مهما من رجالات نظامه.


تبقى قضية القضايا وهي قمعه للحريات في مصر كان واضحا ولا يقبل الجدل وهذا ربما أحد الأسباب التي أدت إلى فشل مشروعه القومي، ولم يكن أقل رأفة في خصومه السياسيين من النظم الحالية ولكنه كان أكثر عنفوانا بحيث أنه لم يقم بمجازر بحق الأخوان المسلمين الذين حاولوا اغتياله ! وحافظ على استقلال المؤسسات القضائية والتعليمية وهذا بالمعنى النسبي للعبارة !! قياسا بالنظم العربية الشبيهة ! إذن بهذه النقاط عبد الناصر لايقارن بأشباهه من النظم التي جاءت بعده. وقراءة نظامه تتم على أرضية مختلفة عن قرائتنا لهذه النظم.
لهذا دعونا نصنف بين عبد الناصر كنظام قومي وبين البقية كنظم هجينة، القومية العربية آخر اهتماماتها وأول غطاءاتها نحو قمع المجتمع والمتاجرة فيه وبكل قيمه ووحدته المجتمعية.


والآن تجري محاكمة صدام ورجالاته في قضية الانفال التي راح ضحيتها سكان قرى كاملة من أبناء الشعب الكردي في العراق بلا حد أدنى من المسؤولية الوطنية أو حتى الإنسانية والحجة جاهزة دوما [ إنهم جيب إيراني عميل ] كما أدعى رجالات نظام صدام، ماذنب الأطفال في هذه العمالة إذا افترضنا أن ما يقوله رجال صدام صحيحا وهو بالطبع غير صحيح ولكنه يؤشر على قدرة هذه النظم على ارتكاب أفظع المجازر من أجل قمع المعارضة أي نوع من المعارضة. ولا أعتقد أن هنالك من يختلف معنا بأن صدام كنظام سياسي كان من أشرس وأعنف الأنظمة في العالم هو وصنوه الآخر في سوريا. فلازال التاريخ مخاتلا بحقهما بمعنى أنه لازال مخبوءا في طيات وعتمة ما كان يجري في الزنازن والمعتقلات الكيثرة والمنتشرة في العراق وسوريا طولا وعرضا. يجب أن يفتح هذا الملف ليس من أجل الانتقام مطلقا بل من أجل أن تتعلم الأجيال العربية والكردية أن السلطة الدكتاتورية لن تستمر دون مجازر دموية !


ومن جهة أخرى في مقابلة السيد الرئيس بشار الأسد لتلفزيون دبي مع السيد حمدي قنديل الذي ذكره بالحريات والقمع في سوريا مشكورا بالطبع وطالبه بالأفراج عن بقية المعتقلين في السجون السورية ! وابتسم السيد الرئيس ابتسامة استنتجت أنا منها أنه ربما سيفرج قريبا عن بعض المعتقلين وأرجو أن يكون استنتاجي في محله ! لكي يعودوا إلى عائلاتهم وأطفالهم ووطنهم المغيب في قرار شخص واحد إما أن يأخذه للتهلكة أو يأخذه للتهلكة لأنه من الصعب لا بل من المستحيل على شخص واحد أن يرسم مصير وطن بعشرين مليون إنسان إلا بالقوة العارية. ثم لا أحد يجادل حول ما نهب هذان النظامان من أموال الشعبين السوري والعراقي نهبا قل نظيره في عالم الفساد السياسي. فعدي صدام حسين وجدوا لديه مصروف جيب مبالغ تتعدى نصف مليار دولار !! ورثها عن جده في تكريت !! رحمه الله على كل حال.


والنقطة الأساس إذن إما أن نتحول إلى ارتال تمشي كالعسكر في الصف دون أن [ تلخبطه على حد قول المصريين ] أو [ ننفل ] اشتقاقا من انفال والطرق التي تشتقها هذه النظم في التنفيل أو الترادف في الصفوف ليست قليلة بل بات لديهم طرقا مبتكرة وكثيرة، يجودون علينا بما أعطاهم الله من مواهب في التنفيل والترادف والهتاف وكل يوم مناسبة وإن لم تكن هنالك مناسبة يخترعونها فصدام أنزل للشارع العراقي قبل الاحتلال الأمريكي بأيام أرتال من أربعة ملايين عراقي تهتف باسمه وبحياته كما تهتف الجماهير السورية اليوم.
ومن لا ينفل ولا يقف في الصفوف هاتفا يبقى إما وحيدا خائفا في بيته من أن يقطع رزقه أو يأخذ إلى سجن وهنالك تستقبله الزنازن المرفهة بالرطوبة والعفن والجرب وكل أمراض السجون السورية ! عدا عن التعذيب الجسدي والنفسي فهم أيضا أصبحوا مبدعين ويحتاجهم العالم لكي يكتبوا تاريخ أبداعاتهم في هذا الشأن العراقي السوري..الخ


لا نستبعد لو أن علاقة النظام السوري بالأمريكان جيدة لكانوا أرسلوا له من يريدون تعذيبه من معتقلين!! لكون القانون الأمريكي لايسمح بذلك !! ولا تستطيع السلطات الأمريكية تجاوزه كثيرا لأن هنالك من يراقب ويحاسب ومجتمع مدني صاح إلى حد ما.


بالعودة للمقابلة المذكورة تحدث السيد الرئيس عن حساسيته تجاه الخارج وقال أنه طلب من الأوروبيين إلا يتدخلوا من أجل أي معتقل فهم عندما يتدخلون سيبقيه في السجن، لأن لرئيسنا حساسية وطنية تجاه الخارج، أليست سوريا خارج بالنسبة للبنان ؟ لهذا مطلوب منا الآن كنشطاء سياسيين وحقوق إنسان أن نناشد الأوروبيين والمجتمع المدني العالمي ألا يطالب بأي معتقل سوري كي لا يبقى في السجن !! وسنقول لهم أن سلطتنا السورية لديها حساسية من كل خارج يطالب بمعتقل سياسي ! وهو يميز بين خارج وطني إيراني مثلا وبين خارج لا وطني منظمة العفو الدولية !! لهذا على ما يبدو قد خفت المطالبة بميشيل كيلو وعارف دليلة بعدما أنجزنا حملة دولية في منظمة العفو الدولية من أجل إطلاق سراحه وكان لفرع سويسرا التابع لهذه المنظمة دورا مهما في هذه الحملة. ويبدو أن المجتمع المدني العالمي قد عرف بحساسية السيد الرئيس تجاه الخارج !! لهذا خفف الحملات والمطالبة بإطلاق سراح المعتقلين في السجون السورية.


هي إذن خيارات ثلاث تضعها النظم الهجينة قوميا إما التنفيل او الترادف والهتاف وعندما نراعيكم نأخذكم للسجون كخيارا ثالثا لأنكم لم تحملوا سلاحا!!
فأين المفر؟؟

غسان المفلح