لن أنسى ما حييت ذلك العجوز وقد داهمه المرض عندما دانى الثمانينات وأحس بدنو أجله ولم يجد من يقوم على خدمته. حملت إليه طفلة جميلة من الجيران تكاد تبلغ الثالثة عشرة تحمل إليه ماءً ليشرب فأمسك بقوة بيدها ولم تستطع الطفلة فكاك يدها من قبضته القوية وعندما هرع الجيران على صراخ الطفلة أخذ العجوز يصيح.. أتركوها معي ! أتركوها معي ! أحس العجوز بغريزته أن الطفلة هي من يستطيع أن يدفع عنه شبح الموت وليس أحداً غيرها.

لم تكن بريئة مطالبة السيد حسن نصرالله بتشكيل حكومة quot; إتحاد وطني quot;. يعلم السيد نصرالله تماماً أن مطالبته بحكومة quot; إتحاد وطني quot; هي في كل الأحوال الطعم الذي سيزدرده الجنرال عون وسيملأ الأجواء إذّاك زعيقاً.. أتركوها لي ! أتركوها لي !

ما لا يمكن تجاهله في هذا السياق هو أن السيد نصرالله رمى بمثل هذا الطعم ليس من أجل جلب أعوان سوريا إلى جانبه في الحكومة لتعطيل تنفيذ برنامج الأغلبية بل قبل هذا من أجل دفع المسؤولية عن الكارثة التي لحقت باللبنانيين جرّاء عمليته quot; الوعد الصادق quot; عن كاهله. أراد نصرالله أن يحرف الخطاب الوطني اللبناني ليذهب بعيداً عن نتائج الحرب ومسؤولياتها تماماً كما استهدفت إيران من الحرب تشتيت إهتمام العالم بسعيها في امتلاك القدرات النووية والسلاح النووي. الجنرال إزدرد الطعم ورأى في الطرح فرصة له لتحقيق أهم أغراضه وهو اعتلاء سدة للسلطة. كلما تعالى زعيق العونيين حول تشكيل حكومة quot; الإتحاد الوطني quot; المزعوم اطمأن نصرالله إلى أن طعمه لم يخب بل نجح في اصطياد السمكة الكبرى.

من الغريب حقاً أن لا يلقي الجنرال بالاً إلى أن الظروف الوطنية والإقليمية والدولية لا تساعد إطلاقاً في البحث في أهلية الحكومة الحالية، حكومة السنيورة وذلك ليس بسبب أن مختلف الهيئات الدولية والإقليمية، باستثناء السلطة السورية بالطبع، قد شهدت بكفاءة حكومة السنيوره وحسن تدبيرها لكافة أمور لبنان المختطف في حرب لم يقررها، بل لأن أموراً وطنية حيوية وفي غاية الأهمية قد غدت من الأمور الملحة وغير قابلة للتأجيل على الإطلاق من مثل إعادة إعمار عشرات ألوف المنازل التي تهدمت لإيواء مئات ألوف اللبنانيين قبل دخول فصل الشتاء القارس في لبنان وقد أمسى على الأبواب، ومثل البحث عن أبنية مناسبة بديلة للمدارس التي لم تعد صالحة للتدريس ولم يعد ثمة وقت طويل قبل استئناف الدراسة، ومثل هذا معالجة الشلل الإقتصادي وقد غدا عامة الشغيلة عاطلين عن العمل دون ما يقيم أودهم، الشلل بفعل الحرب وبفعل الحصار وقطع مختلف طرق التواصل مع العالم الخارجي ؛ وقضايا أخرى ذات أهمية بالغة مثل هجرة الشباب المستفحلة.

الجنرال عون المسكون بحب السلطة، مثله مثل سائر القادة العسكريين، إلتقط الدعوة غير البريئة الموجهة إليه خصيصاً من حسن نصرالله وأخذ ينادي بعصبية بالغة بما يسمى quot; حكومة الإتحاد الوطني quot; التي لا معنى لها سوى إطفاء النار بالماء. ووصل به الأمر لأن يوجه تهديدات جوفاء مثل قوله للرئيس السنيورة.. quot; عندما أقرر عليك أن ترحل وبسرعة quot;. ثمة مثل شعبي يتداوله الفلاحون في حوران يقول.. quot; جيزة حمده براس المعناه quot; وهو ما يعني أن الفتاة حمده استعجلت الزواج قبل الحصاد وهو ما يسمح بتوفير نفقات العرس وتجهيز العروس. ومثلها استعجل الجنرال عون إعتلاء السلطة قبل توفر الشروط التي تسمح بذلك وقبل حل القضايا الملحة التي باتت تضغط على حياة اللبنانيين.

لم تمضِ عدة أيام قبل أن يتوفى العجوز المريض ويترك الطفلة الجميلة لمستقبلها الحافل ولعريسها الشاب. ونحن نتمنى بكل الصدق ومن أعماق القلب العمر المديد لجنرالنا العجوز رافلاً بالسكينة وحسن التسيّس والإختيار وألا يكون صيداً ثميناً لأحد كان ذلك الأحد هو حزب الله أم المستقبل أم اللقاء الديموقراطي أم الشيخ الأكرم بطرس حرب. نتمنى بكل الصدق كل ذلك لأننا نعترف وبلا تردد أن لبنان ما زال بحاجة ماسة للجنرال ولتياره العلماني الديموقراطي نظرياً على الأقل فالجنرال هو السياسي الوحيد من بين جميع الساسة اللبنانيين القادر على المطالبة بمحاكمة حزب الله لخرقه السيادة الوطنية والتي أشار إليها سعد الحريري منذ البداية لولا وثيقة (مار مخايل).

أنا أعرف بأن الجنرال يعرف أن نزقه قد أفقده كثيراً من النفوذ ومن فرص النجاح لكن صدقية الجنرال تحول دون تحكمه بهذا النزق ؛ كما يعرف بأن المشاكسة وهي في طبعه لا تتواءم مع العمل السياسي. أنا أعلم كل ذلك لكنني لا أعلم فيما إذا كان الجنرال لا يعلم أن النزق والمشاكسة هما المسؤولان عن اتخاذ مواقف سياسية ليست صحيحة أو مناسبة من مثل وثيقة ( مار مخايل )، تلك الوثيقة التي لولاها لطالب الجنرال بمحاكمة حسن نصرالله وحزبه على كل ما جلبوه إلى الشعب اللبناني من مآسي ومن كوارث.
نصيحتي للجنرال أن يمزق وثيقة ( مار مخايل )

عبد الغني مصطفى