هل سئم قادة العراق بعد الاحتلال وابطال المعارضة قبله حالة التأرجح بين الطلاق الفعلي والزواج الصوري التي لازمت مسيرتهم طوال سنوات عديدة؟ هل أمن هؤلاء ان النظام السابق اصبح في خبر كان، فملًوا الرقص مجتمعا على تلك الاسطوانة وبات كل منهم يرى نشوته في البكاء علنا على ليلاه ؟ هل فطنت اطراف المقاومة والارهاب الى افضل السبل واقصرها في الوصول الى الهدف فقرر كل طرف فيها منح اجازة زمنية لنفسه مؤمنا ان مشاهدة اطراف العملية السياسية وهي تتناحر وتتقاتل فيما بينها اجدى وانفع، وان عمليات المقاومة والارهاب ليست إلا مسكٍنا يؤخر الى حين تقاتل اطراف الكعكة على كعكتهم! هل امتلك احدهم اخيرا الجرأة ليطلق رصاصة الرحمة على الوطن المذبوح او يدق البسمار الاخير في نعشه فيشيع الى مثواه الاخير وتقرأ الفاتحة في جنازته ويتناول الجميع القهوة على روحه وهم يشكرون الفاعل لفعله الانساني في وضع حد لنزيف عذاباته!
اذكر جيدا ان جامعة الانبار التي عملت فيها كان لديها مركزا ثقافيا لاساتذتها ومنتسبيها حالها حال الجامعات الاخرى وقد أغلق ذلك المركز استجابة لرغبة الشخصيات المحافظة في المدينة بدعوى ان فيه قاعة لتناول المشروبات الكحولية وكان كثير من الزملاء ومن بينهم المسؤولين في رئاسة الجامعة يشكو من ذلك كونه متنفسا لهم ويرى في غلقه تقييدا لحرية الاخرين، ولكن لم يجرأ كثير منهم على المغامرة بالمطالبة العلنية لاعادة فتحه لان ذلك يعني المغامرة بالسمعة الشخصية واتذكر ان الكثيرين في الجامعة كان يردد ان رئيس الجامعة يرفض تحمل مسؤولية ذلك ويطلب من معاونيه فعله عندما يكون في إجازة. ومرت الايام وذهب رئيس الجامعة في اجازة وقرر مساعد رئيس الجامعة تحمل تلك المسؤولية وتم تأجير المركز لمتعهد جديد وبدأ بعض المنتسبين ارتياده لكن ذلك لم يستمر طويلا حيث تم غلق المركز بعد فترة قصيرة بينما بقي السيد المساعد الى اجل بعيد يذود عن نفسه من تهمة تشجيع فتح الحانات في المدينة المحافظة وعدنا من جديد الى ممارسة اساليب العمل السري في شققنا الصغيرة! ربما تكون ازمة العلم التي نشبت إثر قرار السيد مسعود البارزاني رئيس اقليم كردستان بمنع رفع العلم العراقي الحالي في كردستان اشبه بقرار اعادة فتح المركز الثقافي في جامعة الانبار، حيث اخيرا تطوع السيد البارزاني ليجس نبض الشارع العراقي بمختلف اطيافه في قضية مصيرهذا الوطن المفتت واقعا والواحد شكلا. ان المراقب للحالة العراقية يعي ببساطة ان الحالة في اقليم كردستان قد وصلت الى حالة من النضج ترقى الى مستوى دولة ولايعوزها سوى الاعلان الرسمي بذلك وربما جاء اختيار السيد جلال الطالباني لرئاسة الجمهورية ومشاركة المسؤولين الاكراد في العملية السياسية ليمثل شعرة معاوية التي تربط الاقليم بالمركز ولذلك فان اي قرارمن القيادة الكردية سيكون حاسما في رسم صورة العراق كوطن ودولة.
ان مهمة بناء العراق الموحد من جديد تصبح سباحة ضد تيار عنيف وتيهانا في حلقة مفرغة عندما يتصدى لها سياسيون لم يتفقوا يوما إلا على نقطة واحدة هي اسقاط النظام السابق واختلفوا على كل التفاصيل التي تعقب ذلك ابتداء بالعلم والنشيد ومرورا بالفدرالية وشكل الدولة ودور الدين وكثير غيرها وانتهاء بتقاسم الثروات وسلطات الاقاليم والمحافظات. نظرة بسيطة على سلوك هؤلاء السياسيين قبل الاحتلال في مؤتمرات لندن وصلاح الدين وبعد الاحتلال من خلال ممارسة المسؤولية في مواقع الدولة تشير بوضوح الى ان حديث أغلبهم عن العراق الواحد ليس إلا كليشة من جمل روتينية قد لا تكون مقصودة في المعنى تضاف الى خطابهم السياسي كتتمة جمالية لذلك الخطاب بل ان التنافس والرغبة في انتهازالفرصة وكسب الغنائم باية طريقة ومهما كان الثمن تركت وتترك البعض منهم مستعدا لان يتفاوض ويساوم على كل شئ دون اية خطوط حمراء.
انه من الظلم والتجني اتهام القيادة الكردية انها تحمل نزعة انفصالية فالسياسيون الاكراد كانوا وكما هم بالفطرة واضحون منذ البداية في شكل العراق الجديد الذي يريدون ان يكونوا جزءا منه وهاقد مضى اكثر من ثلاث سنوات وصورة العراق لهم تبدو اكثر ضبابية مع كل يوم جديد، والسياسيون الاكراد الذين يحسبون ان مشاركتهم في العملية السياسية مع الاخرين هو دخول في شراكة معهم تؤثرفي تجربتهم المحلية ايجابا باتوا يشعرون بالخطر من انتقال عدوى الامراض الوطنية الى التجربة المحلية ناهيكم عن الشعور بالاحباط من اطراف كانت بمثابة ايتام للقيادة الكردية عندما كانت في المعارضة وتنصلت عن مواقفها السابقة عندما اصبحت جزءا من الدولة ومؤسساتها في بغداد، كما يبدو وضحا ان السياسيين الاكراد يشعرون بعدم الارتياح لاطراف اخرى توحي لهم انها تقاسمهم الرؤية حول شكل الدولة والاقاليم وترغب في جعل الطرف الكردي حصان طروادة للانفصال والتقسيم. اعتقد ان الكثيرين كانوا يعولون على السيد مسعود البارزاني بدور وطني كبير بعد طروحاته الشهيرة في مؤتمر لندن الداعية الى الوحدة والتكاتف ونبذ سياسة الانتقام ويبدو ان السيد البارزاني قد حاول جادا ومخلصا العمل بهذا الاتجاه بعد سقوط النظام فدعا البارزاني الى مؤتمر للمصالحة في اربيل قبل مبادرة المالكي للمصالحة بزمن طويل، لكن المتابع للحالة العراقية لايرى صعوبة في ملاحظة انحصار ملحوظ خلال المرحلة الماضية للدور الذي يلعبه السيد البارزاني على الساحة الوطنية معطيا جلً اهتمامه للقضايا المحلية والقومية وليس غريبا ان يعزى ذلك - وكاجتهاد شخصي في التحليل ndash; الى وصول السيد البارزاني الى قناعة مفادها انه لايرى في كثير من السياسيين العراقيين النافذين في المنطقة الخضراء شريكا حقيقيا يتقاسم معهم الافكار للعمل سويا من اجل العراق الاتحادي الديموقراطي الموحد الجديد. ربما جاءت ازمة العلم لتمثل رجًة عنيفة لكل الاطراف السياسية تدعوها الى مراجعة مواقفها لتحديد خط البداية للجميع لبناء العراق الجديد والكف عن لعبة الدوران في الحلقة المفرغة.
بقيت كلمة اخيرة وهي ان الرئيس مسعود البارزاني في احد لقاءاته التلفزيونية كان يتكلم بمرارة عن خيانة كيسنجرمن خلال اتفاقية الجزائر للقضية الكردية وزعيمها الراحل الملا مصطفى البارزاني. ترى هل احتاط الرئيس مسعود البارزاني لكي لايعيد التاريخ نفسه ويكرر تلامذة كيسنجر الفعل ذاته ؟
الدكتور وديع بتي حنا
التعليقات