في البداية نود ان نطرح سؤالا حول مسألة العلم، هل يحق لإقليم فدرالي يتمتع بحكم ذاتي ان يرفع علم خاص به؟، للإجابة على هذا السؤال نقول نعم، ان كل مقاطعةفيدرالية له الحق في ذلك، على سبيل المثالفي الدول الاسكدنافية المقاطعات تحمل علمها الخاص وفقا للخصوصية التاريخية والإدارية التي تتمتع بها. وهذا معمول به أيضا في المانيا الاتحادية وغيرها من الدول التي تقوم على أساس فدرالي.
وليس في هذا إساءة للعلم الوطني الموحد ولا إخلال بقواعد وأسس العمل الخاصة بالرموز السيادية،لكن فيما يتعلق بالعراق بوضعه الجديد،و بعد زوال العهد الاستبدادي القديم، فلم يعتمد أي علم جديد ليحمل كل إقليم أو محافظة في العراق على ساريته علم العراق الجديد بجوار أعلامهم الفدرالية.
ولكي نكون على بينة من هذا الأمر، سأحاول ان اشرح الحالة بخصوص إقليم كوردستان، لأن موقف رئاسة الإقليم صحيح في جوهره ومرجعيته، وعلى القارئ العربي خاصة العراقي ان يحكم بموضوعية في الموقف بصدد إشكالية العلم العراقي الحالي ؟، فالقرار الذي صدر من الرئيس مسعود بارزاني بالاكتفاء برفع العلم الكردستاني دون العلم العراقي فوق المؤسسات الدستورية والحكومية الكردستانية، ورفع العلم العراقي القديم في المناسبات، جاءت كأول إجراء دستوري مهم من رئاسة الاقليم، لتوحيد النظام الرسمي في الإقليم. وهذه الخطوة تعتبر من الخطوات المهمة بطبيعة الحال لحل إشكالية ازدواجية استعمال العلم كرمز للانتماء المعنوي للاقليم داخل البيت الكوردستاني،اذ كان بعض المناطق يرفع فيه العلم العراقي ومناطق اخرى كانت ترفع العلم الكردستاني.
هذا الإنجاز التاريخي تعرض بطبيعة الحال للعديد من الانتقادات الصارخة والاعتراضات المحلية، وأخذت طابع الجدل في بعض لقاءات الساسة العراقيين، بين مؤيد ومعارض،وبين من يرى في قرار رئاسة اقليم كردستان فيه تحديا غير طبيعيا فوق مستوى الدولة العراقية، بينما الحقيقة عكس ذلك.
وفي حقيقة الامر أن للمسألة سابقة وهي ليست جديدة في واقع الحال، وقد عرض الأمر من قبل على القيادات العراقية وهم كانوا على علم مسبق بذلك بان حكومة اقليم كردستان قد رفضت علم النظام السابق منذ البداية وأقرت العلم العراقي القديم كرمز سيادي للدولة العراقية الحديثة، بسبب ان العلم الجمهوري بدل بعد انقلاب حركة البعث في العراق الى علم آخر،يحمل ثلاثة الوان وثلاث نجوم، مشيرا الى مشروع الوحدة الثلاثية بين مصر والعراق وسوريا في حينه، لكن في خطوة حكيمة وواعية وبهدف دعم العملية الدستورية والديمقراطية في العراق،لم تخوض الرئاسة الكردستانية جدلا حول العلم العراقي داخل أروقة مجلس الحكم والحكومة الانتقالية لاحقا، لكن ظلت محتفظة برأي خاص، وتجنبت التعرض لقضايا سياسية لم يتوصل بشأنها الى تسوية.
وبالرغم ان مجلس الحكم العراقي وليس رئاسة اقليم كردستان!!! قد غيروا في مرسوم رسمي علم البعث القديم الى علم عراقي جديد،يرمز الى السلام ودين الدولة ونهري دجلة والفرات والكرد بألوان بسيطة ذات دلالات معاني كبيرة. وقد صرح المتحدث باسم مجلس الحكم في حينه السيد حميد الكفائي بان العلم الجديد سيرفع فوق المباني الحكومية خلال أيام، ولكن بسبب حالة التشابه بينبعض خطوط العلم الجديد مع علم لدولة اخرى في المنطقة، لم يعتمد من قبل مجلس الحكم وبقى العلم والشعار الجديدين مرهونتان فقط بالفترة الانتقالية، وترك موضوع إقراره لممثلي الشعب باعتماده او عدم اعتماده بعد تشكيل حكومة عراقية دستورية منتخبة.
وقد أكد رئيس اقليم كردستان مسعود بارزاني في اكثر من مناسبة على هذا الأمر ومنها في مؤتمر المصالحة العراقية الذي عقد يوم26 مارس 2004 حيث قال: quot;نحن ندعو مجلس الحكم لكي يقدم لنا علم العراق الجديد الذي يعكس واقع العراق الجديدلكي نضعه على رؤوسنا وفي داخل قلوبناquot;.
ان توجهات السيد مسعود بارزاني مفهومة للعالم الخارجي المتمدن اكثر مما هي على الصعيد المحلي والعربي، وهي في الواقع احدي الحلقات التي تصنع حالة الفهم المشترك مع العراقيين حول مفاهيم السيادة الحديثة، و بسبب متغيرات العصر المتسم بالليبرالية الحديثة والداعية الى ضرورة تبنى معايير السيادة الوطنية عند صياغة المبادئ السيادية الجديدة في النظامالديمقراطيبما يراعي الخصوصيات القومية والثقافية للأقاليم الفدرالية، لأن هذه المعايير تعمل على تنمية الاتجاهات الوطنية الايجابية لدى مواطنيه، اضافة الى عمله على تدعيم الثوابت الوطنية في الأقاليم بصورة دائمة ومستمرة في ضوء المستجدات والتداعيات الأمنية و الإقليمية وحاجات المجتمعات فيها في تلك الأقاليم لبناء مواطنيه وفق قواعد معنوية ومادية صحيحة، لهذا تأتي تحرك رئاسة اقليم كردستان لاختيار علم وطني عراقي موحد يجمع شتات كل العناصر الحضارية لصالح الدولة العراقية الحديثة.
أما بخصوص تصريحات الساسة العراقيين على ان موضوع عدم رفع العلم العراقي الراهن في الاقليم، مرتبط بمسعى الاقليم الى الانفصال فهي محض ادعاء كاذب، لأن عن موضوع الانفصال في الاقليم الفدرالي في كردستان تؤكد التصريحات الرسمية الحكومية أن العملية ليس فيها شيء من الانفصال، وهم يعلمون أجيالهم فقط حب الوطن بكل رموز ه السيادية، ومن ضمنه العلم الكردستاني. وهذا حق مشروع وهو مبدأ من مبادئ الفرد للانتماء الى وطنه ويكرسه هذا الانتماء باعتزازه بعلمه كرمز للوطن، وهذه ليست انفصالية او عنصرية!! لان الكرد إذا لم يخاطبوا في مناهجهم المجتمعية هذه الحقيقة فلن يكون لها مصداقية، وقادة الكرد لا يريدون تظليل أبنائهم اسوة بالآخرين من رؤساء دول المنطقة بشأن الماضي، في حين يمثل علم البعث رمزا للطائرات التي حملت وأسقطت الآلاف من قنابل النابالم والأسلحة المحرمة الدولية على الشعب الكوردستاني وعلى العراقيين، بينما الكورد ويريدون من علمهم ان يعوا الحقيقة كاملة وأن يعلموا ان شعبهم قدم تضحيات تاريخية في سبيل غد أحسن وضمان مستقبل أفضل.
ورغم انف الحاسدين والمتحاملين على موقف الرئاسة الكردستانية، فان المنهاج السياسي للرئاسة لتبني علم العهد الجمهوري كرمز لكل العراقيين فان هذا العمل ان جسد شيء فهو يجسد بذلكاول منهاج وطني مهم يبنى ويقترح بأيد وأفكار وعقول كردستانية. وهو يبقى إنجازا مهما يحمل دلالات كبيرة مثل التوحد والسيادة و الخصوصية الكردية ورغم له وما عليه فانه بإمكاننا ان نعمل على تظافر وتكاتف الجهود والهممعلى تطوير الموقف وتحسينه خطوة فخطوة وشيئا فشيئا، فليس هناك منهاج ثابت مثلما يتخيله البعض من مريدي التيار القومي المتطرف في العراق فليس هناك منهج ثابت في عالم اللبرالية الحديثة، في عالم متسم بدوام السرعة والتطور لعلنا نصل يوما الى التغيير المنشود الذي يبتغيه كل الأحرار في العراق بدون استثناء.
ولاشك ان تصريحات بعض الساسة العراقيين مثل السيد صالح المطلك وهيئة علماء المسلمين حول هذا الموضوع هو تخبط جديد مثل التخبطات الأخرى المتعلقة بالعلم والشعار الجديد، وهي مؤلمة في حقيقة الأمر لأن هذه مفارقة غريبة للمواقف.
ومن المفارقات الغريبة أيضا والمؤلمة لا سيما نحن نخوض في إشكالية العلم العراقي الراهن، هي محاولة للاحتواء وخدع الشارع العربي بالادعاء القائل ان علم البعث رمز جامع للوحدة العربية بنجماته الثلاث وما رأينا من سلوكيات النظام القديم بينت لنا عكس هذا الشعار، بل بالعكس تماما انه استعمله لغزو دول عربية اخرى تحت شعار الوحدة العربية، وأخيرا وليست آخرا لم يعبر هذا العلم يوما عن مكونات العراق القوميةولا عن أرضه ولا عن خصائصهالتاريخية ولا عن دوره الحضاري، بل عبر عن ولادة مشوهة لتاريخ مليء بدمار وحروب كانت مقرونة بالآلام ومعاناة إنسانية كبيرة للعراقيين والعراقيات على حد سواء.
من هذا المنطلق نستطيع ان نجزم ان رفض العلم العراقي لا يشكل طموحا بالانفصال عند الكرد في إقليمهم الفدرالي بقدر ما يجسد في معانيه ومدلولاته وعيا بالمسؤولية وإدراكا لطبيعة العهد الاستبدادي السابق وعلمه وطبيعة مركباته، وأنا أضم رفضي أيضا لكل الأحرار في العراق الذين يشاركونني الرأي في عدم قبول العلم العراقي الراهن ليس فقط في اقليم كردستان بل حتى في المحافل الدولية المختلفة، و كان تقدير رئيس كردستان صحيحا و عادلا بحق العراقيين، والمبادرة الآن يجب ان تكون مطروحة من قبل الحكومة العراقية لتبني العلم العراقي القديم لان في مقدور هذا العلم أن يجمع شتات كل العراقيين وان تنهي حقيقة وجود دولة عراقية بلا علم عراقي اتحادي موحد حتى الآن.

راوند رسول
[email protected]