لعن الله صداما الذي شوه الكثير من القيم والمفاهيم الأخلاقية والإجتماعية أثناء سنوات حكمه الأسود للعراق الذي كان مجتمعه قبل الإنقلاب الثاني لحزب البعث يعيش بصحة وعافية في ظل قيم أخلاقية عالية تتحكم ليست بعلاقات فئات المجتمع بعضها ببعض، ناهيك عن العلاقات الحميمة بين الأسر والجيران، بل أيضا بعلاقة الدولة بالفرد..


فمع مجيء هذا الحزب الفاشي الى الحكم ثانية في العراق تغيرت الكثير من القيم الأخلاقية النبيلة بمختلف مناحي الحياة، وشوهت الكثير من المفاهيم التربوية والإجتماعية وفق منهج مدروس وضعه هذا الحزب الفاشي، وسخر جميع مؤسسات الحزب والدولة لتطبيق ذلك المنهج المسخ.


فقد كانت مناصب الدولة في فترة ما قبل وصول حزب البعث مرة ثانية الى الحكم في تموز 1968، تناط بأبناء الذوات والعائلات العراقية المعروفة، ولم تستثن في ذلك منطقة كردستان أيضا، حيث كان مدراء دوائر الدولة فيها، ناس معروفين على الصعيد الإجتماعي ومن ذوي الحسب والنسب ولهم شهادات تعليمية عالية، كانوا يربأون بأنفسهم من إيذاء المواطنين أو اللجوء الى الرشوة والإختلاس وسرقة المال العام حرصا منهم على سمعة عائلاتهم ومكانتهم داخل مجتمعات المدن.


ولكن مع إنقلاب البعث، إنقلبت جميع تلك المفاهيم النبيلة، وظهرت قيم جديدة لم يألفها المجتمع العراقي من قبل. حيث إستن البعث سنة خبيثة من خلال تنصيب أولاد الشوارع وأشخاص من قاع المجتمع مسؤولين في الحزب والدولة، مستهترا بذلك بكل القيم والأخلاق التي كانت سائدة داخل المجتمع العراقي!.


فكان حفاة الأمس يتنعمون بمباهج السلطة والجاه لمجرد أنهم كانوا متمرسين في القتل والبطش والفتك بالناس من أجل حماية العودةالثانية لدولة البعث، وإنزوى الكثير من الكفاءات العراقية في الخلف بعد حرمانهم من فرص المشاركة في إدارة شؤون الدولة!. حتى حزب البعث ذاته شمله هذا التغيير، فتبوأ قياداتها في ظل حكم البكر-صدام، نواب عرفاء في الجيش وسواق السيارات على حساب القيادات التاريخية لهذا الحزب، لذلك كان من الطبيعي أن ينزوي أيضا العديد من القيادات البعثية الكفوءة والمثقفة، ويتركوا حزبهم بيد أبناء الشوارع يتحكمون بمصير هذا البلد؟!.


وعندما إحتل صدام قيادة الدولة وهو الذي جاء من القرية حافي القدمين كما إعترف بذلك بنفسه، وهو الذي لم يعرف له نسب و حسب، ترسخت تلك المفاهيم المشوهة في دولته، وأصبحت مقاليد الدولة فعليا بيد مجموعة من أفراد العصابات والشقاوات التي لا تقيم أي وزن لإنسانية الإنسان أو قيم المجتمع، فتحولت الدولة تبعا لذلك الى دولة مشوهة سياسيا وإقتصاديا وإجتماعيا، وعجزت طوال 35 عاما من تقديم أي شيء لهذا البلد والسير به بإتجاه التقدم والرقي، رغم أن هذا البلد كان يعوم فوق بحر من النفط والخيرات الوفيرة زراعيا وصناعيا وإقتصاديا، فقد كرس صدام حسين جل إمكانيات هذه الدولة من أجل تدعيم حكم العائلة والعشيرة على حساب الشعب العراقي.


في ظل تلك الدولة الدكتاتورية السائبة، كان من الطبيعي أن يستشري الفساد في أجهزة أجهزتها وينخر بنيتها الأساسية، ومن ثم توريث هذه الدولة بكل أمراضها وعلاتها وفسادها لمن جاؤا بعدهم من أبناء الشوارع والطيفيليين والمنتفعين والإنتهازيين والسراق النهابين!.


في جلسة ضمت نحن ثلاثة من الزملاء تطرقنا الى ما يعانيه العراقيون هذه الأيام في ظل أزمات معيشية خانقة وتدهور أمني منحدر نحو الهاوية السحيقة،فتساءل أحد الزملاء عن أسباب عدم تشكيل حكومة تكنوقراط تأخذ على عاتقها مسؤولية إنقاذ البلاد من محنته الحالية رغمأن هذه الحكومة هي مطلب شعبي لمعظم العراقيين؟. وكان رأيه أن هذا هو الملاذ الوحيد لمكافحة الفساد في البلاد وإخراجه مما يعانيه على مختلف الأصعدة السياسية والإقتصادية والإجتماعية.فلم أملك إلا أن أضحك على سذاجة مثل هذا الطرح.. لأن الأخ المتساءل نسي سلفا، أن الحكومات التي خلفت صدام حسين إصطبغت بشرعية إنتخابية حتى ولو كانت مزيفة، وأن هذه الأحزاب التي صعدت الى السلطة بفعل عوامل طائفية وعرقية لن تتنازل عن هذا الحق الإلهي الممنوح لها تحت أي ظرف كان لمجرد إنقاذ البلد من مأساته الحالية واللاحقة!.


وتذكرت حينها ما رواه لي صديق سبق أن أوردت روايته في مقال سابق عندما قال، أن أحد الأشخاص إلتقى بأحد ملالي إيران وسأله عن سر نجاحهم في بسط سيطرتهم على الدولة الإيرانية طوال عشرين عاما؟. فأجابه الملا quot; كنا في زمن الشاه نتجول في القرى والأرياف نرشد الناس ونعظهم فينقدوننا (5) قرانات، وكنا نشد على ذلك المبلغ بأيدينا بقوة حتى لا نفقده، فكيف ونحن اليوم بيدنا دولة؟!!..


ونفس الحال ينطبق على الأحزاب التي تحكم عراق اليوم.فمعظم تلك الأحزاب التي تقود البلاد اليوم كانوا بالأمس شحاذين يطوفون عواصم العالم لإستجداء المال والدعم، وبينهم من كانوا يقفون أمام الفنادق يستعطفون وفود الخارجية والدفاع في بعض البلدان، فكيف بهم اليوم وهم يمتلكون تحت أيديهم خزائن العراق الوفيرة؟؟!!..


لقد جاء هؤلاء ليحكموا ويقضموا حصتهم من الكعكة العراقية اللذيذة حتى لو كان على حساب دماء مئات الألوف من أبنائه، بدليل أنه رغم سقوط مئات الجثث في شوارع بغداد وبقية المدن العراقية لا يرف لهم جفن ولا تهتزضمائرهم الميتة لكل هؤلاء الضحايا الذين تسال دمائهم كل يوم، فيعمهون في طغيانهم وفسادهم ويحولون بلدهم بأيديهم الى الخراب والدمار عن سابق تصميم وترصد!.
وإلا فمن يتصور من عاقل، أن تكون كل هذه الخيرات في البلد، ولا تستطيع الدولة توفير ولو ساعات قليلة من الكهرباء لمواطنيها؟!.


من يتصور أن يحوم البلد فوق بحر من النفط، وتعجز الحكومة عن توفير المحروقات لمواطنيها في هذا الفصل القارص،وأن يشتري المواطن العراقي برميل من النفط الأبيض بـ(200) دولار فيما يباع البرميل الخام في أمريكا بستين دولار؟؟!!.


من يصدق أن الدولة النفطية الثانية في العالم عاجزة عن توفير البنزين لسيارات المواطنين بعد أن رفعت أسعارها أضعافا مضاعفة منذ ثلاث سنوات،وألتقط إشارات من الآن بأن هذه الدولة سوف تنفض يدها تماما عن توزيع البنزين عبر محطاتها الحكومية للمواطنين، وأن المحطات التجارية ستتولى بعد الآن توزيع تلك المادة بأسعارها الخيالية التي لا تتناسب مع دخول المواطنين،وطبعا هذه الأسعار ستسحب معها موجة جديدة من الغلاء الفاحش لتقصم ظهر المواطنين؟!.


إن كل ما يعانيه الناس اليوم في عراقهم ( المتحرر؟!)هو بسبب فساد الدولة، وكما يقال( إذا فسد الرأس فسد الجسد كله)..
ولنا بهذه المناسبة إشارة صغيرة قد تغني عن كل ما كتبناه في هذا المقال والمقالات السابقة،وهي بمثابة تجربة عشناها في أقليم كردستان..


فقبل سقوط نظام صدام حسين تبوأ الدكتور برهم صالح نائب رئيس الوزراء العراقي الحالي رئاسة حكومة الأقليم في السليمانية. والرجل هو من أبناء عائلة معروفة على المستوى الإجتماعي بالمدينة، وعاش لسنوات طويلة في الخارج حصل فيها على أعلى شهادة أكاديمية. وبهذا فقد تجمعت لديه ثلاثة من أهم المواصفات التي يفترض توفرها بمسؤول حكومي، أو لنقل برأس الحكومة،وهي الحسب والنسب والخبرة الإدارية والشهادة العلمية. فمع ترؤوسه لحكومة الأقليم شن حربا لا هوادة فيها ضد مظاهر الفساد التي كادت تنخر جسد تلك الحكومة الأقليمية الصغيرة،وأنجزالكثير من المشاريع التنموية والإعمارية ضمن نطاق سيطرة حكومته،وكان يحاسب أكبر رأس في الحزب والحكومة إذا ما تجاوز على المال العام،وكاد أن يدشن لتجربة فريدة من نوعها في الأقليم لم يألفها المواطنون من الحكومات السابقة لولا سقوط صدام الذي خطف هذه الكفاءة الإدارية العالية والنزيهة الى بغداد التي تتصارع فيها قوى غير سوية، ليبتلى هو أيضا بحكومة فاسدة من القمة الى القاع!!.. وما أن ترك برهم صالح منصبه كرئيس لحكومة الأقليم،حتى بدأت الأفاعي تخرج من جحورها لتلدغ أجساد الناس، فعم الفساد بأبهى مظاهره في الأقليم وأصبح جميع المسؤولين فيه يعملون وفق منطق (كلمن إيدوا أله) سارقين اللقمة من أفواه الناس بهدف الإغتناء والثراء حتى وصل الأمر بصحيفة كردية أن تجري إحصاءا فريدا من نوعه يبين وجود أكثر من ثلاثمائة ملياردير في السليمانية في ظرف ثلاث سنوات فقط؟؟!!..


وإذا تحدثنا عن مستوى المليارديرية على نطاق الأقليم فيكون من الصعب تحديدهم لأن الكثيرين منهم تعلموا من صدام كيف يخفون أموالهم في البنوك الخارجية والأقليمية، ولكنهم لم يتعلموا من درس صدام تلك النهاية المأساوية التي إنتهى اليها، إبنين مقتولين، وبنات مشردات في الخارج، وزوجة ثكلى، وأشقاء ورفاق في السجن ينتظرون حبل المشنقة، وأعوان متخفون في الظلام خوفا من زوار الفجر؟؟!!..
تلك كانت عدالة السماء بحق المتجبرين المستعليين على شعبهم الذين كانوا يستهزؤن بشرائع الله، ولكن (اللّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ)..

شيرزاد شيخاني

[email protected]