إن أخطر صفات البعثي هي النزعة السلطوية أو بالأحرى التسلطية. فهو يكتسب ويبرر بسرعة وبغريزية غريبة أية صفات أو أساليب مشوّهة أو منحرفة تعزز عنده تلك النزعة. فالسلطة ليست وسيلة لتغيير ظروف المجتمع نحو الأفضل، بل هي غاية بحد ذاتها!! لذلك أصبحت البراغمايتية بأبشع صورها أحدى الصفات
السلطة غاية بحد ذاتها، لذلك يصبح حديث الأخلاق أو المسؤولية نافلاً ولا قيمة له. لقد سمعتُ مرةً بعثياً يحدّث آخرَ عن شخص ما، يقول له ( أنس هذا التافه، فهو لا ينفعنا، أنه يعاني من عقدة كرامة )!! أي أنه غير صالح للعمل في الحزب بسبب اعتزازه بكرامته، في حين دأب الحزبيون عموماً على وصف كل بعثي مسالم بأنه ( بعثي متخاذل )!!
أن أي متابع لدراسات التحليل النفسي والروايات والأفلام الجادة التي جاءت في أعقاب هزيمة الفاشية والنازية في إيطاليا وألمانيا، يستطيع أن يعرف معنى أن تكون السلطة غاية بحد ذاتها، ويعرف أيضاً أن نزعة التسلط ولذة الهيمنة على الآخرين واستعبادهم هي نزعة مرضية ناتجة عن مركبات نقص وتدهور أخلاقي مريع، سببه الشعور القاتل بالعجز عن مواجهة حقائق الآخرين وحريتهم وحقوقهم بشكل سويٍّ وطليق. ليس بوسع البعثي أن يعطي الآخرين حرية أو كرامة، لأنه فاقد للصفتين، وفاقد الشيء لا يعطيه، كما تقول الحكمة المعروفة.
يظل البعثي سجين أوهام السلطة طالما كان في المعارضة، فيصبح التآمر ديدنه، وحين يتسلم مقاليد الحكم يصبح عبداً للسلطة ذاتها، فالسلطة هواه ومبتغاه، حاضنة وساوسه وعقده. وهو سرعان ما يكتشف وحشتها ووحشيتها التي هي وحشة روحه ووحشية عقله المريض، ومن هنا تبدأ عبوديته لها ورغبته باستعباد الآخرين. أن من يحاول انتزاع السلطة منه إنما يهدده بالفضيحة وانكشاف ضعفه وهزائمه، لذلك لا يجد خياراً سوى تعميم هذه الوحشة والوحشية على المجتمع ككل. وهذا أيضاً معنى من معاني عدم إنتماء البعثيين لأية طبقة من طبقات المجتمع.
لم يأت البعثيون من فراغ، ولم يهبطوا علينا من المريخ طبعاً، بل هم ورثة مساوىء الأربع قرون المظلمة من التسلط العثماني على البلاد العربية، حيث حلت ثقافة قطاع الطرق وسلطة الجوع والأوبة محل الاستقرار والسلطة المركزية والدور الحيوي للقضاء في مراحل ملحوظة من الحقبة العباسية والحقب التي سبقتها، وحلت الخرافات والوساوس محل المعرفة والأدب والدين وقيمه وضوابطه المعروفة، لقد أنتقل رمد العيون إلى رمد العقول والمشاعر المضطربة الخائفة من العمى والظلام. هذا الخوف المرضي هو الذي أنتج ثقافة البعث التي لا تنتمي لتاريخ المنطقة في جوانبه المضيئة والمتطورة، إنما للماضي المهزوم والمحطم، لكسور الذات الجماعية وتقعر وعيها ومشاعرها جراء الهزائم والخضوع والتشتت الطويل الذي عاشته، حيث نشأت لاحقاً ثقافة الأوهام والكذب على الذات والآخرين كتعويض عن إنسداد الأفق والسقوط تحت وطأة العجز والإحباط، ومن هنا نشأت ثقافة البعث وأشباه البعث وطبيعة شخصياتهم وتوجهاتهم.
كل دول العالم لها (جهاز أمني خاص) محدود العدد ضمن المنظومة الأمنية العامة، أفراده تتم تربيتهم على القسوة والفضاضة المطلقة، وفق نظرية (تحويل الإنسان إلى ذئب) المعروفة في عالم الأجهزة المخابراتية. وعادةً يتم تسليط أفراد هذا الجهاز الخاص على الأعداء الخارجيين عندما تتعرض مصالح البلاد العليا إلى خطر داهم، لكن حكم البعث في العراق وسوريا خرق هذه العادة، حيث إمتاز بتعدد غير مألوف للأجهزة الأمنية، إذ تم تخريج الآلاف من الذئاب البشرية لتكوين ملاكات هذه الأجهزة التي سُلّط بعضها على البعض الآخر كتعبير عن خوف الحاكم من سلطته ذاتها. وتم تسليطها جميعاً على المواطنين كتعبير عن كراهيته للمجتمع كرد فعل على هاجس عدم الشرعية الذي يسيطر على وعيه ومشاعره، حتى أصبحنا أمام معادلة مقلوبة تماماً، فبدل أن تكون الأجهزة الأمنية تابعة للدولة وخاضعة للقوانين، أصبحنا أمام دولة تابعة لأجهزتها الأمنية وقانونها الأساسي هو الخوف والخضوع!! حيث أصبح البلد برمته تحت رحمة من لا رحمة ولا ضمير لهم.
هذه هي المدرسة التي تُخرج المزيد من الشخصيات العدوانية، وهكذا تتشكل وتتطور صفات الشخصية الذهانية أو السايكوباثية ( psychopathic ( التي تمتاز بالاضطراب النفسي الشديد ومعادة المجتمع وفقاً للتعريف العلمي. لقد كان شعار دوائر الأمن في نظام صدام: ( إذا لم نجعل من كل مواطنٍ شرطياً، سنحتاج إلى شرطي على رأس كل مواطن) وفي تلك الدوائر كانت لجنة خاصة أسمها (لجنة التسقيط) مهمتها إجبار الشخصيات المستقلة وعناصر الأحزاب الأخرى، على الإنتماء لحزب البعث بشتى الوسائل المرعبة، حتى يتم إسقاطها بنظر المجتمع، كي لا يكون لها مصداقية سياسية تؤهلها لتشكيل معارضة شعبية!! فهل هناك وساوس مرضية وحقد على المواطنين أكثر من هذا؟! نعم. قال أحد أعضاء القيادة القطرية في منتصف السبعينات (يكفي أربعة ملايين عراقي إذا لزم الأمر) بمعنى إننا مستعدون للإبقاء على أربعة ملايين عراقي فقط، ونبيد الآخرين إذا اقتضى بقاؤنا في السلطة ذلك. لقد أعجبت العبارة صدام حسين على ما يبدو، لكنه كان يقلق من رفاقه الذين يُبدون عدوانية أكثر منه، فعزل قائلها، وطور مضمونها بقوله في مؤتمر صحفي شتاء 1979 ( من يريد أن يستلم السلطة بالعراق سيستلم أرضاً بدون بشر )!! وهذا ما نجد ترجمته لا في المقابر الجماعية فقط، بل وأيضاً في أعمال التفجير والقتل الجماعي للمواطنين الأبرياء، التي دأب على أرتكابها البعثيون إلى جانب التكفيريين خلال الأربع سنوات الماضية، ولولا التسهيلات الكبيرة والمبرمجة التي تقدمها أجهزة البعث السوري لهذه الجحافل من الذئاب البشرية لما استطاعت أن تواصل جرائمها بهذا الكفاءة والإمكانيات الكبيرة.
إذا كانت الصفة الوبائة لسلطة البعث قد تجسدت بظواهر كثيرة يعرفها المواطنون السوريون والعراقيون أكثر من سواهم، فإن ظاهرة الذئاب البشرية بأعداها الكبيرة هي النتيجة الأكثر بشاعة لهذا الوباء، فهي كمخلوقات فقدت متعة الإحساس بإنسانيتها ومعنى وجودها، إنما تندرج أيضاً ضمن قائمة ضحايا هذا البعث. فهل هناك عقوبة أبشع من تحويل الإنسان إلى وحش كاسر بلا ضمير ولا إحساس، مهمته ملاحقة وأضطهاد وقتل إناس لا يعرفهم ولا يعرفونه؟!
إننا هنا أمام صورة نموذجية لشخصية الضحية - الجلاد، وهذا في الواقع هو أخطر نجاحات البعثيين. نجاحهم في تعميم عاهاتهم الأخلاقية على أكبر عدد من أتباعهم وضحاياهم ثم توريط المجتمع بهم وتوريطهم مع المجتمع حيث يختلط الحابل بالنابل حقاً!! حتى أصبحنا مع مجتمع يخشى بعضه البعض الآخر، تضطرم في داخله رغبات الإنتقام، فإذا استمر النظام استمرت معه هذه الحالة المتوترة، وإذا سقط انفلتت الغرائز ورغبات الانتقام الدفينة، وهذا أحد أهم أسباب الفوضى والضياع الذي يعيشه المجتمع العراقي راهناً. أنه وباء البعث.
عبر الأربعين سنة الماضية، تم تفكيك البنية التحتية والحقوقية للمشروع الديمقراطي المفترض، ولم يحدث ذلك اعتباطاً، لأن ( لشعوب هذه المنطقة خصوصيتها الثقافية والتاريخية المختلفة ) كما قال الرئيس السوري الحالي حين تصاعدت أصوات سورية، قبل ما يقارب السنتين، تطالبه بالإيفاء بوعود العدالة التي قطعها في أيام رئاسته الأولى. وخلاصة معنى كلام الرئيس هي أننا شعوب أدمنت العبودية تاريخياً، وبالتالي فإن الديمقراطية هي تهديد لهذه الخوصية لأنها ستضعنا في عراء سياسي أمام الأعداء!! وكأن هؤلاء الأعداء لم يتفوقوا علينا حضارياً واقتصادياً وعسكرياً بالديمقراطية ذاتها!! وحين وُضعت حقائق ووقائع المظالم والأزمات التي يعانيها الشعب السوري أمام أحد مثقفي النظام (عضو مجلس الشعب حالياً ومستشار في القصر الجمهوري سابقاً) في مقابلة مع أحدى الفضائيات، وبعد أن صار يدور بنظراته يميناً وشمالاً كما لو أنه وقع في شرك، لم يجد رداً سوى الاستشهاد بأسوأ ما قاله المتنبي ( والظلم من شيم النفوس فإن تجد ذا عفـّة فلعلة لا يظلم ) إن أقل ما يُقال عن هذا البيت هو أن مضمونه غير أخلاقي، ناهيك عن تناقضه مع مبادىء وقيم الأديان السماوي. لكن التفسير البعثي له هو أننا مجتمعات محكومة أبدياً بأن يظلم بعضنا البعض الآخر!! أي أن مجتمعاتنا خارج قوانين التطور الإنساني!! هذا هو ( الشعور القومي ) الذي يريد البعثيون أن يؤبدونا تحت وطأته، وكل من يطالب بالديمقراطية وحقوق الإنسان يوصم بتهمة (إضعاف الشعور القومي) ليرمى في السجن لسنين طويلة! أليست هذه هي تهمة ميشيل كيلو وزملائه الذين حكموا مؤخراً ليقضوا بقية حياتهم في زنازين البعث؟!
أما مواقف صادم حسين من الديمقراطية والمساواة فقد كانت أكثر غرابة في الواقع، ففي خطابه خلال (مؤتمر إتحاد نساء العراق) في 1987 قال (نحن نحترم المرأة لأنها أقرب المخلوقات إلى الرجل)!! وفي أحدى الندوات العامة التي كانت تنقلها فضائيته الرسمية، حيث كانت تؤدي له مجاميع متتالية من الضباط كلمات الولاء والطاعة قبيل سقوطه بشهور، قاطع صدام أحد الضباط ببتسامة عريضة وصوت متهدج ليقول: ( فلان.. فلان الجماعة يردون ديمقراطية، تعرف شنو الديمقراطية؟! الديمقراطية يعني النسوان يصيرين يامرن وينهن مثل الزلم!! شلونك بهاي؟! ) ومعنى (شلونك بهاي) هو: ما هو رأيك بهذه المسخرة يا رفيق؟!
في 1983 حيث كنت أعيش في دمشق، قرأت مقالاً في جريدة (الثورة) لأحد الكتاب البعثيين، قال في معرض تبريره لتصاعد الأزمة السياسية الاقتصادية، ما فحواه ( إننا لا نبني الإشتراكية الآن لكي يتوقع المواطنون مزيداً من المكاسب، أن جهود الحركة التصحيحية منصبة على تهيئة الظروف لبناء الاشتراكية ) لكن بعد عشرين سنة على هذه التهيئة المجيدة أصبح أكثر من نصف الشعب السوري يعيش في حالة فقر وتحت خط الفقر وفقاً لإحصائيات معروفة ومتداولة بينما السجون تغص بمعتقلي الرأي!! فالمطلوب بعثياً هو تعميم ثقافة الكذب وقتل روح المجتمع بمزيد من التبريرات الواهية.
لا يقتصر وباء البعث على سوريا والعراق فقط، بل شمل بلداناً أخرى، فقبل مأساة الشعب الكويتي وبعدها، مازالت محنة الشعب اللبناني جراء تدخل أجهزة النظام السوري مستمرة. لقد كان الراحل رفيق الحريري مُدركاً لأهمية وضرورة البرامج التي تصنع مستقبلاً مختلفاً للبنان، لذلك كان (المستقبل) أساساً وعنواناً لمشاريعه، لكنه، ربما، لم يكن يعرف خطورة وقع كلمة (المستقبل) على مسامع البعثيين، أحفاد قطاع الطرق الذين خرجوا علينا من أوحال الماضي ليلطخوا بها حاضرنا ومستقبلنا، لذلك قتلوه، ثم واصلوا ذلك بقتل سمير قصير وجوج حاوي وجبران تويني وآخرين.. والهدف دائماً هو قتل روح المجتمع لتعميم العبودية على الجميع!!
لقد سقط البعث سياسياً سواء كان في السلطة أم خارجها، أي فقد مصداقيته تماماً، لكن المتابع لا يجد بديلاً قادراً على إنقاذ أيٍّ من البلدين!! لماذا؟! الجواب: لم يعط البعثيون بحكم طبيعة نظامهم الاستبدادي فرصة لنشوء أحزاب مدنية ديمقراطية، وهم أيضاً اضطهدوا الأحزاب الإنقلابية الأخرى اليسارية والدينية والقومية، ودفعوا بقاياها إما للهجرة خارج البلد أو همشوها وجعلوها من توابعهم في (جبهة وطنية) شكلية لا تأثير لها على القرار السياسي. لكن المفارقة التي لم ينتبه إليها أحد، هي أن هذه الأحزاب قومية كانت أم يسارية، قد استفذت مهمتها في نظر المجتمع أيضاً، ولم يعد يعول عليها أحد، لأنها في واقع الأمر أشباه للبعث من حيث الجوهر وأساليب العمل، فالقوميون الآخرون لا يختلفون سوى بتعديلات معينة على الشعارات، أما اليساريون فيكفي أن نتذكر مآسي الشعوب في البلدان الأشتركية سابقاً، فلو أستلم السلطة أي حزب شيوعي في العراق أو سوريا، لن يفعل أفضل مما فعل الرفاق في الإتحاد السوفيتي أو بلغاريا. هل هذه من حسنات البعث؟! يا لها من مفارقة غريبة حقاً!!
وإذا تساءلنا: ما هو البديل إذن؟! خصوصاً بعد انكشاف الطبيعة الضيقة الأفق والطائفية للأحزاب الدينية. هل يكفي القول أن البديل هو دولة القانون والنظام الديمقراطي؟! السؤال الذي سرعان ما يطرح نفسه هنا، هو: وماذا عن تجربة دولة القانون والنظام الديمقراطي في العراق والتي جاءت مثقلة بكل انحرافات البعث وأوبئته؟! هل المشكلة في دولة القانون والديمقراطية أم في الأحزاب التي استغلت هذا المشروع الحضاري الذي لا بد منه، أسوأ استغلال؟! وأيضاً: هل لدى الأحزاب السورية ضمانة واقعية أن لا تتكرر الكارثة العراقية في سوريا لا سمح الله؟! هذه هي الأسئلة المهمة المطروحة على الثقافة والمثقفين في سوريا والعراق، لاسيما ضرورة فهم التأثير التاريخي والجغرافي - السياسي المتبادل سلباً وإيجاباً بين البلدين.
إن من يريد الحفاظ على الوحدة الوطنية ليضمن مستقبل بلاده، عليه أولاً إنقاذ المواطنين من الوباء الطائفي المدمر والذي عشعش داخل العقول والمشاعر!! وهذا ما تجيد الأنظمة المأزومة إستثماره لصالحها، أما المعارضة الوطنية فهي تجد نفسها خاسرة دائماً عندما تنشط ثقافة الإنقسامات الطائفية وغير الطائفية.
أن البلدان الكبيرة والغنية بثرواتها وكفاءاتها على غرار سوريا والعراق، ليس بوسعها أن تظل بين بين، بل هي أما أن تتقهقر وتتراجع من سيء إلى أسوأ، أو أن تمتلك زمام المبادرة فتتطور لتتصدر المشروع الحضاري في المنطقة. إذا أدركنا هذه النقطة الحساسة سيكون بوسعنا أن نكون أكثر واقعية لنقول: أن المشروع الديمقراطي بحاجة لأجيال متتالية لكي تنجزه، وهو أولاً بحاجة إلى ديمقراطيين كي يضعوا أسسه الأولى عبر رؤيا علمية واقعية وعميقة. وكي نساهم في هذه البداية الصعبة لا بد أن ننقذ أنفسنا وشعوبنا من أوبئة البعث التي تستمر بتأثيرها حتى بعد سقوطه، وأولها الطائفية وثانيها أوهام التسلط على الآخرين، أي الاستحواذ على الدولة واسعباد المجتمع!!
كريم عبد
التعليقات