quot;يبدو أن مجموعة من الشباب المغاربة بدأت تتصدر قمة الإجرام المنظم في هولندا، وليست هي الوحيدة التي تسعى إلى الانفراد بموقع السلطة في ميدان الجريمة، وإنما كذلك أبناء الجيل الحالي يتأهبون، حيث قبل خمس سنوات كان هؤلاء المجرمون الهواة ينشطون على صعيد الأحياء، أما الآن فيمتد نفوذهم إلى ما هو وطنيquot;. هذا ما صرح به عميد مفتشي شرطة أمستردام المفصول فيلم فولدرس، في سبتمبر الماضي من السنة الجارية.
قبل الشروع في تفكيك هذا التصريح، ومن ثم محاولة استيعاب بعض جوانبه الأساسية، يجدر بنا التطرق إلى ظاهرة الإجرام في المجتمع الهولندي، نظريا وواقعيا.


إن مفهوم الإجرام يتحدد من خلال ذلك السلوك الإنساني المنحرف، الذي يترتب عنه ارتكاب الجريمة، وهي تعني مصطلحيا كل انحراف عن المعايير الاجتماعية والثقافية التي تتصف بقدر هائل من التعاقد والالتزام، ويفرق علماء الإجرام بين العديد من أنواع الجريمة أو الإجرام، وفيما يلي أهمها، (كما ورد في مقال هولندي لكاتبه كونيو يحمل عنوان: الجريمة في هولندا):
الإجرام العدائي: وهو يتضمن نماذج مختلفة كالقتل والظلم والتخريب والعنف والتمرد على النظام العام.
الإجرام الجنسي: ويتمثل في القذف والاعتداء على الشرف والاغتصاب وممارسة الجنس على القاصرين من الأطفال.
الإجرام المالي: وخير ما يمثله السرقة بمختلف أصنافها، وينضاف إلى ذلك الغش والتهرب الضريبي.
الإجرام الطرقي: وهو كل ما يتعلق بما يرتكب من جرائم من قبل سائقي السيارات، تحت تأثير السكر، وبسبب عدم احترام قوانين المرور، ثم الهروب المتعمد بعد اقتراف حادثة طرقية معينة.
وتنضاف إلى هذه السلسلة من الجرائم، جرائم أخرى بدأت تهيمن على المجتمعات الإنسانية الحديثة، كتجارة المخدرات، وامتلاك الأسلحة الممنوعة، والتجاوزات التي تمارس على البيئة، وجرائم الحرب وغير ذلك.


وثمة تقسيم آخر لا يختلف كثيرا عن التقسيم السابق، اللهم إلا على مستوى التسميات، حيث يعتبر الإجرام العدائي نوعا من الانتقام، ويرى في السرقة وما جاورها من الجرائم أنها \ات طابع اقتصادي، كما يتحدث عن الجرائم السياسية، كالتي تقع أثناء الحروب.


وقد نشأت نظريات مختلفة (للاطلاع أكثر يمكن تصفح الموسوعة الحرة ويكيبيديا، في نسخها العربية والإنجليزية والهولندية.)، حاولت تفسير العوامل التي تقف وراء وقوع كل هذا الزخم من الجرائم، كالنظرية الاقتصادية، التي ترى أن الجريمة مترتبة عن الظروف المادية القاسية التي تعاني منها الكثير من شرائح المجتمع، مثل الفقر والبطالة، مما يجعل البعض يبرر مثل هذه السلوكات غير المشروعة قانونيا وعرفيا ودينيا، تحت ذريعة الخصاص والحاجة واحتكار الأغنياء لثروات الدولة. والنظرية الجغرافية التي تفسر الجريمة من منظور جغرافي بحت، فترى أن المناخ والبيئة يؤثران في الإنسان، ويمكن النمذجة لذلك بالقرصنة البحرية أو قطع الطرق التجارية، حيث في بعض الأحيان تجعل البيئة القاحلة والخالية من الموارد، الناس يلجأون إلى مثل تلك السلوكات المشينة لتوفير موارد العيش. ثم النظرية البيولوجية، وقد أحدثت هذه النظرية دويا كبيرا في عالم الدراسات الإجرامية، وقد وضعها المفكر الإيطالي لومبلاوزو في الربع الأخير من القرن التاسع عشر، ووضح فيها النمط الجسمي الذي يميز مرتكبي الجرائم، كما بين أثر الوراثة في انتقال الإجرام، وقال أن هناك بعض الخصائص التي تميز المجرمين عن غيرهم وأهمها، عدم تماثل نصفي الجمجمة، وضخامة الفك السفلي، وفطس الأنف، وقلة شعر الذقن، وقلة الحساسية للألم، وغير ذلك، لكن هذه النظرية تظل نسبية، ما دام أن هناك الكثير من الناس الذين يحملون تلك الخصائص الجسدية، ومع ذلك فهم ليسوا مجرمين، بل ويعتبرون من صفوة المجتمع!


وعندما نربط ظاهرة الجريمة بالواقع الغربي عامة، والهولندي خاصة، ندرك أن ثمة تفريقا لدى دوائر الشرطة والقضاء والإحصاء، بين الجرائم المسجلة وغير المسجلة، فالصنف الأولى تتم دراسته بناء على معطيات مراكز الشرطة، إما انطلاقا من الإشعارات التي يقوم بها الناس لديها بوقوع جريمة ما، وهي لا تخص كل ما يحصل من جرائم، لأن ثمة العديد من جرائم السرقة والاعتداء التي لا يخبر بها الناس مكاتب الشرطة، أو انطلاقا مما يسجله رجال الشرطة من تجاوزات المرور في الطرقات وعبر الشوارع، ويظل شق من تلك التجاوزات كذلك غير مسجل، لعدم مشاهدته ومصادفته من قبل رجال الأمن، ثم بناء على معلومات المحاكم، من خلال ما يعرض عليها من جرائم. أما الصنف الثاني، وهي الجرائم غير المسجلة، فيتم تناوله من خلال البحوث الميدانية والتحريات والاستمارات واستطلاعات الرأي، وقد بدأ العمل بهذه المنهجية في ميدان الجريمة بهولندا منذ 1975، وسوف يتطور الأمر أكثر، فتنشأ انطلاقا من 1989 شركات ومؤسسات تتخصص في مجال الإجرام بأساليب أكثر تطورا واحترافية.


عود على بدء، إن ما صرح به عميد مفتشي شرطة أمستردام المفصول، السيد فيلم فولدرس، يدخل في نطاق الحرب النفسية الممارسة على الجالية الأجنبية الموجودة في هولندا عامة، والمغربية خاصة، لأن معالجة هذه الظاهرة الاجتماعية المنحرفة، لن تتأتى بمثل هذه التصريحات التي تزيد الطين بلة، لا سيما وأن ثمة من المحللين من يثبت بأن الصورة المشوهة التي يقدمها الإعلام الغربي حول الإسلام والمسلمين، هي المسؤولة على جانب من سلوكاتهم غير السوية. حقا أن ظاهرة الإجرام بدأت تشهد في الآونة الأخيرة تصاعدا ملحوظا لدى الشباب ذوي الأصل المغربي في هولندا، حيث يشير بحث قامت به مصالح الشرطة في مختلف المدن الهولندية الكبرى، إلى أن واحدا من كل ثلاثة شبان مغاربة، يتراوح سنهم بين الثانية عشر والثمانية عشر سنة، سبق له وأن عرض على مركز للشرطة! بل وأنه، حسب المصالح الأمنية والبلدية والقضائية، فقط في مدينة أمستردام التي يعد سكانها بحوالي مليون نسمة، ينشط حوالي 1500 مجرم شاب، ثلاثة أرباع منهم ذات أصل مغربي!


أمام هذه الوضعية الإجرامية المزرية، التي يتخبط فيها قسم عظيم من الشباب ذوي الأصل المغربي، في الوقت الذي يتوجه فيه الشباب الهولندي الأصل إلى المعاهد والجامعات، حاولت الدولة الهولندية نهج مختلف الأساليب الترغيبية والترهيبية، قصد الحد من تنامي الجريمة في صفوف هؤلاء الشباب، فصرفت أموالا طائلة، وسخرت مشاريع جمة، لكن دون جدوى، وهذا يعني أن ثمة خللا ما في الاستراتيجية التي تتبعها الدولة الهولندية في هذا الشأن. وهذا ما يمكن تبينه من خلال الملاحظات الآتية:
إن الصورة المقزمة والمشوهة التي تنسجها وسائل الإعلام الغربية والهولندية حول المسلمين والأجانب، ثم مباركة سياسيين ومسؤولين كبار من وزراء وزعماء أحزاب لذلك التقزيم والتشويه، يعتبر بمثابة وضع الزيت على النار لإطفائها، مما يزيد الأمر أكثر تعقيدا واشتباكا، فمن الطبيعي أن يكون رد فعل الشباب الأجنبي المراهق قويا وعنيفا، على كل تصريح أو رأي يزدري دينه أو ثقافته أو شخصيته أو أصله، لأنه لا يزال في مقتبل العمر، لم يخض بعد تجارب الحياة، التي تعلمه كيف يتماشى مع المستجدات والحقائق التي تصدمه، فهو لا يملك إلا أن يواجه تلك الصورة التي تشوهه، في عيون غيره من زملاء الدراسة والشارع، وتضعه وأهله ومجتمعه المصغر في دائرة المنبوذين! وتختلف وسائل المواجهة وردود الأفعال، من شاب إلى آخر، كالعنف والتخريب والقتل والسب وغيرها.


هذه الوضعية تساهم، بشكل أو بآخر، في فقدان هؤلاء الشباب للثقة في النفس، فيقل مردودهم الدراسي، وسرعان ما يغادرون المدرسة قبل إتمام تحصيلهم وتكوينهم، ناهيك عن التعليم الهولندي، كما يستنبط عالم الإجرام التركي الأصل يوسيل يزيلغ، الذي لم يمنح الأهمية اللازمة لهم، عن طريق التعامل معهم مع مراعاة ظروفهم الاقتصادية والاجتماعية والنفسية، مما يترتب عن ذلك فشلهم الذريع في التعليم، على هذا الأساس فإن حل معضل الجريمة لدى هؤلاء الشباب، لا يتم إلا بتحسين وضعيتهم العامة، وليس بنشر أعداد هائلة من رجال الشرطة!


ثم تجدر الإشارة إلى مفارقة غريبة، وهي أن هؤلاء الشباب غربيون أو هولنديون بالولادة والتكوين والثقافة وغير ذلك، ولم يبق لهم من الثقافة أو الديانة الأصلية لآبائهم المهاجرين، إلا ذلك الجانب العقدي والطقوسي والأخلاقي، فعندما يتعلق الأمر بأي نجاح رياضي أو فني أو سياسي يحققونه، فهم يحسبون على الغرب، ويستقبلون بالأحضان! لكن عندما يرتبط الأمر بأي سلوك منحرف أو مشين فهم أجانب ومسلمون، يرفضون الاندماج الإيجابي في الثقافة الغربية، ويشكلون تهديدا للمجتمع، وما إلى ذلك من أحكام القيمة المسبقة.


كما أن المسؤول الأكبر على جانب من هذا الاتجاه الإجرامي لدى هؤلاء الشباب، هو طبيعة التربية التي يحفز عليها الواقع الهولندي، وهي تربية ينبغي أن تنبني على الحرية الشخصية المطلقة لدى الطفل، مما يتعارض والقيم السائدة لدى الجاليات الأجنبية والمسلمة، حيث ثمة خطوط حمراء يحظر على الطفل والمراهق تجاوزها، وفي هذا الصدد، حقيق بنا الإشارة إلى التصادم الذي يحدث مرارا وتكرارا، بين أسلوب الآباء في التربية وطريقة المدرسة، حيث يمنع الأب من زجر وضرب ابنه، ولو أنه اقترف جرما شنيعا، لأن التقاليد الهولندية ترفض ذلك، وما أكثر الآباء المغاربة الذين استدعوا إلى مراكز الشرطة، بسبب أنهم أساؤوا معاملة أبنائهم، بل وما أكثر الآباء الذين حرموا من أبنائهم وزوجاتهم، الذين يودعون في دور ومراكز خاصة، تسهر عليها جهات هولندية، تكون أحيانا نصرانية!


إن المجتمع الغربي عامة، والهولندي خاصة، لم يستوعب بعد طبيعة التفكير لدى الأجانب والمسلمين المستقرين في الغرب، فهو ملزم بأن يحترم بعض التقاليد الثابتة النابعة من معتقداتهم وثقافاتهم، حتى لا يسقط الكثير من الشباب والنساء في مأزق انفصامي، لا يعرفون كيف يوفقون فيه بين ثقافتهم الأصلية وبين الثقافة الغربية، فتنتج عن ذلك بعض ردود الفعل الخشنة، التي يرى فيها المجتمع الغربي تهديدا خطيرا لمصالحه، لذلك فإن التوجيه السليم للأبناء لا يكون بحصار الآباء بالتقاليد الغربية، التي قد تتنافى وأخلاقهم الإسلامية، وإنما بالانفتاح على طرائقهم في التربية، ودعمها بما هو إيجابي لها من الأساليب البيداغوجية والنفسية.


خلاصة القول، إن إشكالية الإجرام في هولندا وغيرها من دول العالم، لا تحل فقط عن طريق ما هو مالي، حيث أن محاربة ظاهرة الإجرام وحدها، اقتضت السنة الماضية (2006) من ميزانية الدولة الهولندية الإجمالية، حوالي 31 مليار يورو، أي ما يعادل تقريبا 2000 يورو على كل فرد من المجتمع الهولندي، ولعل هذا الرقم يأتي في المرتبة الثانية بعد الولايات المتحدة الأمريكية، التي صرفت في السنة نفسها لمحاربة الإجرام، ما يعادل 7200 يورو على كل مواطن! وإنما تحل تلك الإشكالية عبر مختلف الوسائل التواصلية والإعلامية، التي قد لا تتطلب من ميزانية الدولة ولو سنتا واحدا، مثل التقليص من الحرب النفسية التي يمارسها الإعلاميون والسياسيون على الأجانب والمسلمين، إعادة النظر في المناهج التربوية والدراسية، مراعاة طبيعة التقاليد التي تتحلى بها الجاليات الأجنبية والمسلمة، محاولة إشراك الآباء في تربية الأبناء وتوجيههم، وما إلى ذلك من السبل الناجعة والوسائل المعقولة.

التجاني بولعوالي
كاتب مغربي مقيم بهولندا
www.tijaniboulaouali.nl