أجمعت القوى السياسية الجزائرية بما في ذلك الجبهة الإسلامية للإنقاذ على لسان زعيمها الدكتور عبّاسي مدني على إدانة العمليات الإرهابية التي عصفت بمنطقتي حيدرة و إبن عكنون في قلب العاصمة الجزائرية و التي أودت بحياة ثلاثين مواطنا جزائريّا و إصابة عشرات الجرحى بما في ذلك تلاميذ المدارس الذين كانوا متواجدين في المنطقة عند حدوث التفجيرات، و قد سارع تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي إلى تبني هاتين العمليتين اللتين شكلتا حسب المراقبين في الجزائر العاصمة تطورا نوعيا في أسلوب هذا التنظيم الذي بدأ يلجأ إلى العمليات الإستعراضية التي تذكّر بأحداث العراق للحصول على الصدى الإعلامي المرجو عادة من مثل هذه العمليات..


وقد حدثت هذه العملية بعد زيارة الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي إلى الجزائر كما تزامنت مع ذكرى الحادي عشر من ديسمبر التي يحتفل بها الجزائريون كل سنة، و هي الذكرى التي تخلّد خروج سكان الجزائر العاصمة إلى الشوارع وإعتصامهم بها ومطالبتهم فرنسا بمنحهم الإستقلال، و هي المظاهرات التي جعلت ديغول يقّر بوجود مشكلة فرنسية حقيقية في الجزائر و أبدى إقتناعه برغبة الجزائريين الملحّة للحصول على الإستقلال وهو ما تحققّ بعد أشهر من هذه التظاهرات في الخامس من تموز ndash; يوليو 1962.


و تأتي هذه العمليات الأخيرة التي كانت الجزائر العاصمة الجزائرية مسرحا لها لتؤكّد أنّ العنف في الجزائر لم ينته بل تطورّ ليسلك أساليب مغايرة و أداءا مختلفا عن السابق، فعلى مدى عشر سنوات أي منذ بداية الفتنة الجزائرية سنة 1992 كان الصراع الدائر بين الجماعات المسلحة و الجيش الجزائري محصورا في مناطق جبلية وعرة أو عبر إغتيالات و إغتيالات مضادة، وعندما طرح الرئيس الجزائري عبد العزيز بوتفليقة مشروع الوئام المدني ثمّ مشروع المصالحة الوطنية إستجابت بعض الجماعات المسلحة لهذا المشروع وقررّت التخلي عن العمل المسلح ومنها الجيش الإسلامي للإنقاذ بقيادة مدني مزراق و عناصر من الجماعة الإسلامية المسلحة و الجماعة السلفية للدعوة والقتال. غير أنّ هذا لم يتمكن من تطويق الفجوات الأمنية والقضاء النهائي على الجماعات المسلحة.


فالجماعة السلفية للدعوة و القتال قررّت تغيير عنوانها لتصبح تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي و هذا أهم وأبرز تطورّ في المشهد الأمني الجزائري إذ قبل ذلك كانت كل الجماعات المسلحة الجزائرية تملك أجندة جزائرية ضمن الحدود الجزائرية و هذا ما كان يتيح التفاهم و حتى التواصل معها، لكن بعد تحول الجماعة السلفية للدعوة والقتال إلى جزء لا يتجزأ من تنظيم القاعدة أصبحت خاضعة لأجندة تنظيم القاعدة على الصعيد العالمي و أصبحت ميدانيا تأتمر بما تفرزه قيادة القاعدة من أوامر وقرارات و هذا ما يفسّر إستهداف مقرّ مفوضية شؤون اللاجئين في العملية الأخيرة في الجزائر العاصمة و المفوضية فرع من فروع جمعية الأمم المتحدة و بالتالي إختار تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي تدويل حربه في الجزائر بعد أن كانت محصورة بمقاتلة عناصر الجيش الجزائري و ضبّاط الأمن..


و حسب المعلومات المتوفرّة فإنّ تنظيم القاعدة يريد أن يحوّل الجزائر إلى قاعدة خلفية له ينطلق منها لتفعيل إستراتيجيته فيما لو أخفق بشكل كامل في العراق وأفغانستان، فالجزائر تتمتّع بمناطق جبلية وعرة و يصعب السيطرة على تضاريسها الجغرافية بالإضافة إلى وجود إستعداد لدى كثير من شبابها لتبني فكر القاعدة نتيجة إخفاق السلطة في معالجة مواضيع البطالة و الفقر و التهميش الأمر الذي حمل العديد من الشباب الجزائريين إلى تبنّي الفكر الإنتحاري، و حسب المعلومات أيضا فإنّ تنظيم القاعدة نجح في تهريب مئات العناصر من العراق وليبيا وتونس و أفغانستان و أوروبا إلى الجزائر عبر الحدود الصحراوية الواسعة والتي يسهل التسللّ عبرها، و قد باتت هذه العناصر في عهدة تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي في إستراتيجية تهدف إلى تقوية هذا التنظيم الفرعي للقاعدة و ضخّ الحياة فيه عبر قدرات عسكرية قادرة على تلغيم السيارات و حتى صناعة الأسلحة الخفيفة و المتوسطة.


و إذا كانت السلطات الجزائرية قد نجحت سابقا في التعاطي مع ملف الجماعات الإسلامية المسلحة الجزائرية لأنّ كل خيوطها جزائرية فإنها ستلاقي عشرات المشاكل مع تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي بإعتبار أنّ خيوط هذا التنظيم متشابكة بين عواصم عدة و أجندات متعددّة.
و تشير بعض المعلومات الدقيقة أنّ الجزائر باتت في دائرة أجندة دولية تهدف إلى بثّ الذعر و هزّ إستقرار الجزائر و جرّها إلى مزيد من الإبتزاز السياسي و الإقتصادي خصوصا و أنّ عيون بعض الإرادات الدولية على النفط الجزائر الذي يتعاظم شأنه في الأسواق الدولية...و ما لم تبادر السلطة الجزائرية إلى تفعيل مسعى المصالحة الشاملة و الكاملة فإنّ الجزائر مرشحة لمزيد من هذه العمليات التي يشمّ منها روائح بغداد وكابول و بيروت.
ففي سنة 1992 وعندما إندلعت الفتنة الجزائرية، كان بعض الرسميين يستهينون بها معتبرين إياها ثقوبا صغيرة في الجدار الأمني الجزائري سرعان ما تسدّ، لكن هذه الثقوب تحولت إلى فوهات بركانية تطلبّ الكثير من الجزائر لتجاوز قطوعها.


و إذا كانت الأزمة محلية تاريخئذ و أمكن التحكم في بعض أطرافها، فإنّ القاعدة اليوم تريد تحويل الجزائر إلى ساحة مواجهة لأطراف دولية، و يبدو أنّ بعض الجهات الدولية و الإقليمية تستحسن فكرة نقل الصراع إلى الدائرة الجغرافية الخلفية في الجزائر، لتخفيف العبئ عنها في دوائر المشرق العربي.


و الحل الأمني قد لا يفضي إلى وضع حدّ لإستراتيجيات هذا التنظيم، بل الحلّ يكمن في إحقاق إجماع سياسي و مصالحة وطنية شاملة و هو وحده الكفيل بنزع الغطاء السياسي عمن يخططّ لإرجاع الجزائر إلى درجة ما قبل الصفر وهذه المرة من الخارج.

يحي أبوزكريا