على هامش مؤتمر الأقليات الذي انعقد في مدينة زيوريخ السويسرية(24ـ26 مارس/ آذار الماضي)، جاءني ممثل أمازيغ ليبيا فتحي بن خليفة، متردداً، طالباً مني التوقيع على عريضةٍ تندد بتصريحات quot;الفاتح الأخيرquot; معمّر القذافي، العدائية، المسعورة، ضد الشعب الأمازيغي. وحين سألته عن تردده، قال: quot;نحن الأمازيغيون، لدينا تحفظات من مواقف الأخوان الأكراد المتعاطفة، مع ديكتاتورية القذافي...ولكونك كردي، ترددت، تجنباً لأي إحراجquot;، فقلت: quot;عزيزي... الديكتاتور، هو ديكتاتور، وإن كان فاتحاً للجماهيرية السماويةquot;، ووقعت على البيان، فحيّاني بحرارة، ومضى.
هذه الأيام، طالعتنا بعض الصحف والمواقع الإلكترونية الكردية، بخبرٍ قادني إلى بعض جوابٍ على quot;عقدةquot; حرج الأمازيغي المظلوم تجاه الكردي quot;الغافلquot; لظلمه، رغم أنهما كانا على امتداد تاريخهما المرّ، في هوى المظلوميات و quot;جماهيرياتquot; الديكتاتوريات سوى.
الخبر أفادنا بأن quot;وفداً من الاحزاب الكوردستانية في فرنسا، زار الزعيم الليبي معمر القذافي في مقر اقامته بالقرب من فندق ماريني بالعاصمة الفرنسية باريس. وضم وفد الاحزاب الكوردستانية السادة برزان فرج ممثل الاتحاد الوطني الكوردستاني في فرنسا ودلشاد بارزاني ممثل رئيس اقليم كوردستان وعدد من ممثلي الاحزاب والشخصيات السياسية والاجتماعية الكوردية في فرنسا. في بداية اللقاء عبر الزعيم معمر القذافي عن سروره بزيارة الوفد، معبراً عن دعمه الكامل لحقوق الكورد. وفي جانب آخر من حديثه قال الزعيم القذافي: انا على قناعة بعدالة ومشروعية القضية الكوردية لذلك منذ ايام الثورة الليبية ولحد الان لم يتغير موقفي تجاه الكورد وعملت ماكان باستطاعتي لدعمهم ومساندتهم. ونقل الوفد الكوردستاني شكر وامتنان شعب كوردستان لمواقفه النبيلة تجاه قضيته. quot;(بوك ميديا، 14.12.07).
ولكن السؤال المظلوم، الباحث عن بعض عدالةٍ، والذي يمكن توجيهه إلى تشكيلة الوفد الحزبي، quot;العاجلquot;، quot;الممثلquot; للقضية الكردية، العادلة، بدون أدنى أيّ شكٍّ، هو، هل فكر الوفد الكردي المحترم، أن القذافي وليس غيره، سمى ما يمكن تسميتهم بquot;أكراده الليبيينquot;(أقصد الأمازيغ، نظراً لتشابه مظلومية قضيتهم في المغرب العربي مع قضية الأكراد في تركيا وسوريا وإيران والعراق سابقاً) بquot;القبائل المنقرضة، المنتهيةquot;، وquot;القبائل النكرة والمجهولةquot;، وquot;عملاء وسموم الإستعمارquot;، وسوى ذلك من كلامٍ إقصائيٍّ، إنكاريٍّ، عدوانيٍّ، مسعورٍ، لشعبٍ أصيل في الشمال الإفريقي، حين قال على هواء تلفزيونه quot;الأخضرquot;: quot;قبائل الأمازيغ انقرضت من زمان..هي قبائل لا نعرفها بالمرة... جاءت لكنها انقرضت وانتهت.. من يقول أنا أصلي أمازيغ وأن البربر غير عرب هذا عميل للاستعمار.. أي واحد ينفث سموم الاستعمار، يسحق هو وافكاره...quot;؟(أوائل مارس/ آذار الماضي)
فهل الأكراد، اليوم، بحاجة إلى دعم quot;هوائيquot; لديكتاتور بدوي، quot;خضراويquot;، كالقذافي، من خلال تصريحاتٍ هوائية، تطلق في الهواء، لترجع إلى الهواء وتستقر فيه ثانيةً؟
ثم، ليقل لي، كردي واحد، مسؤول، نصف مسؤول، أو لامسؤول، أين، وفي أي quot;بنك سياسيquot; يمكن لهكذا تصريحات لا بل مزاودات عنترية، تؤخر، ولاتقدم من القضية الكردية بشيء، أن تُصرف وأن يتم التعاطي والتداول بها، سياسياً؟
في أي مؤتمر دولي، أو إقليمي، أو حتى محلّوي، يمكن أن تؤخذ هذه التصريحات المطلقة على عواهنها، في الفضاء العنتري، بعين الإعتبار، وعين الضغط، وعين الدبلوماسية، وعين والقرار الفاعل؟
كيف تكون قضية شعبٍ كالأمازيغ، في عيون الديكتاتور البدوي، quot;قضية نكرةquot;، quot;ممسوخةquot;، ولا وجود لأصلها وفصلها، وquot;يُسحق كل من يقول أنه أمازيغيquot;(على حد تهديد القذافي)، فيما يكون هو ذاته، في التصريحات الطلقة، المبثوثة في الهواء الغير محسوب، والطلق، quot;داعماً ومسانداً لقضية الأكراد وعدالتها ومشروعيتهاquot;؟
أيّ موقفٍ quot;نبيلquot;، يمكن أن يكونه القذافي هذا، على حدِّ تقريظ quot;شيوخ الوفدquot;، وهو لم يترك quot;نبيلاًquot; وquot;شريفاًquot; واحداً، مدافعاً عن قضيته، إلاّ وسحقه quot;الديكتاتور النبيلquot;، وداس عليه، بصرامي مخابراته، وأنفلهم بquot;آياتٍ وأسفارٍ ووصاياquot; من quot;كتابه الأخضرquot;، المعلّق في سماء ليبيا، أكثر من كتب الله؟
مشكلة أكراد الإيديولوجيات(كل الإيديولوجيات بلا استثناء)، هي أن ذاكرتهم كالغربال، مثقوبةٌ.
فهل تذكّر الوفد المسؤول، في مضافة quot;الديكتاتور البدوي المناضلquot;، مظاهرات و تهليلات quot;فلسطينيي إيديولوجيات أيام زمانquot;، بُعيد قصف نظام البعث الفاشي للمناطق الكردية في حلبجة، بالكيمياء والسيانيد والخردل، وشتى صنوف الأسلحة الفتاكة المحرمة دولياً، فرحاً بquot;زجquot; الأكراد إلى جهنم الكيمياء المجهول، واحتفالاً بإقتيادهم الجماعي، المشرّع بquot;أياتٍ مفصّلات، وأنفالٍ منزّلاتquot;، إلى موتهم المؤكد، المعلوم؟
لا يزال أكراد الجرح الكثير، الحلبجوي(نسبةً إلى حلبجة الكيمياء والأنفال) بإمتياز، يتذكرون بحرقة، quot;بوسةquot; الراحل ياسر عرفات quot;العروبيةquot;، لجبين quot;صدامهquot;، وموقفه المؤسف والمخجل(كزعيم لشعبٍ مظلوم وقضية مظلومة)، من القتل الكيميائي الذي أمطره quot;حامي العرب الأول للبوابة الشرقيةquot; صدام حسين (الملقب عرفاتياً بquot;سيف العربquot;)، على المدنيين الأكراد العزّل، في أواسط مارس/ آذار 1988.
وكيف للعراقيين أن ينسوا موقف قادة حماس(عبد العزيز الرنتيسي مثالاً) حينما فتحوا بيتاً في عزاء quot;شهيديهماquot; عدي وقصي، سنة 2004(اللذان عاثا أرض العراق وسمائه بطشاً وقتلاً وفساداً)، ربما إيماناً والتزاماً بالمبدأ السلفي، الرجعي، quot;أنصر أخاك ظالماً أو مظلوماًquot;؟
وفي الأمس القريب جداً(أوكتوبر/ تشرين الأول من العام الماضي)، أثار وصف رئيس الوزراء الفلسطيني المُقال، وأمير quot;إمارة غزة الإسلاميةquot;، راهناً، اسماعيل هنية، للبيشمركة الكردية بأنها quot;عصاباتquot;، ردود أفعال كردية رسمية وشعبية عنيفة. الأمر الذي دفع البعض من المثقفين والكتاب الليبراليين العرب والفلسطينيين، وفي مقدمتهم الزميل د. أحمد أبو مطر، إلى الرد على تخرصات هنية، في مقالٍ له، تحت عنوان quot;إسماعيل هنية: لمصلحة من استعداء الشعب الكردي؟quot;، جاء فيه: quot;لأنه لا يستطيع أحد أن يوجد أية مبررات في ظروف النضال الفلسطيني لاستعداء الشعب الكردي وخلق مشاكل معه من خلال هذه الإهانة التي لا يقبلها أي مواطن كردي في كافة أنحاء الوطن القومي الكردي المجزأ والمحتل، لأن البيشمركة الكردية هم الفدائيون الذين دافعوا عن حقوق شعبهم وصمدوا في وجه الطاغية صدام وجيشه، وقد استشهد منهم ألاف وهم يدافعون عن شعبهم، وفي الثقافة والتاريخ الكردي لهم مواقف مشرفة تماما مثل نظرة الشعب الفلسطيني لفدائييه المخلصين من كافة التنظيمات...فلماذا افتعال المشاكل من أعلى مسؤول فلسطيني مع الشعب الكردي؟quot;
ولا يزال الكويتيون يعبرون عن عميق أسفهم، تجاه الموقف الفلسطيني الرسمي وقيادته(التي عاشت عقوداً من زمان quot;التضامن العربيquot;، على الكوبونات والبخشيشات والمساعدات الخليجية، والكويتية بخاصة)، من الغزو الصدامي واحتلاله لبلادهم، في الثاني من أغسطس/آب 1990.
وبالبرغم من محاولات قادة منظمة تحرير الفلسطينية، وسعيهم الحثيث لكسر جليد علاقاتهم مع الكويتيين، من خلال quot;اعتذاراتquot; بعض مسؤوليها الكبار، كالإعتذار الذي قدمه خلف الرئيس الفلسطيني الراحل، محمود عباس للشعب الكويتي، أثناء زيارته إلى الكويت في ديسمبر/ كانون الثاني 2004، رغم ذلك، فإنّ مشهد احتضان الراحل ياسر عرفات لصدام البائد، في الخامس من أغسطس/ آب 1990(أي بعد ثلاثة أيام من غزوه للكويت)، لم يسقط من ذاكرة الكويت والكويتيين بعد.
للشعوب ذاكرةٌ، لا يمكن للديكتاتوريات وقمع أجهزتها المخابراتية، أن تمحيها.
للشعوب، ذاكرةٌ معلومة، لا يمكن لها أن تتحول بزعبرات وخزعبلات ديكتاتور quot;هوائيquot;، مهووس بصنع quot;النظرياتquot; الهوائية quot;الخضراءquot;، كالقذافي، إلى quot;ذاكرة نكرةquot; لquot;شعب نكرةquot;، كما هو يريد للشعب الأمازيغي في quot;جماهيريته العظمىquot;، أن يكون quot;شعباً عربياً ليبياًquot;، أو quot;شعباً ممسوخاً بلا هويةquot;، أن شاء أم أبى، وإلا quot;سيُسحق هو، وكل من معهquot;.
للشعوب، تاريخٌ يكتبها و يحفظها، ويؤسس ويؤرخ للصادر والوارد(أحداث، قضايا، مواقف، وشخصيات)، من وإلى زمانها ومكانها.
وعليه، أسأل ضيوف ديكتاتور الكتاب الهوائي الأخضر، وquot;المشروعياتquot; وquot;الحقانياتquot; الهوائية، من quot;أكرادهquot; الهوائيين، الذين quot;نبّلوهquot;، وأثنوا على مواقفه quot;البايتةquot;، وquot;بجّلوهquot;، باسم الشعب الكردي:
متى كان الديكتاتور، على امتداد زمانه ومكانه الديكتاتوريين، هكذا quot;نبيلاًquot;( على حد تقريظات الوفد، وثناءاته)، quot;معطاءاًquot;، وquot;نصيراًquot; للمظلومين وقضاياهم العادلة؟
كيف يمكن للقذافي، وهو الديكتاتور جملةً وتفصيلاً، أن يساوي quot;نبيلاًquot;، حينما يدعم من تحت خيمته الباريسية، القضية الكردية، لأنها قضية حقانية، عادلة، ومشروعة، فيما هو ذاته quot;يدعسquot; في طرابلس الغرب(عاصمة ديكتاتوريته) على القضية الأمازيغية، لأنها(وفقاً لتخرصاته)، quot;قضية لاوجود لهاquot;، لشعبٍ quot;انقرضquot; ولم يعد موجوداً على الخريطة؟
ثم ما المصلحة، كردياً، من هكذا quot;ديبلوماسيةquot; كردية، لامسؤولة، في أن quot;تُنبِّلquot; القذافي الذي لا يمثل سوى حاشيته، كأي ديكتاتور على وجه هذه المعمورة، مقابل استعداء شعبٍ كالشعب الأمازيغي، بملايينه الكثيرة(حوالي 35 مليون نسمة، وفقاً لإحصائيات غير رسمية)، المشتتة بين دولٍ في الشمال الإفريقي(المغرب، الجزائر، ليبيا، مالي، النيجر، الصحراء الكبرى)، والذي تتشابه قضيته إلى حدٍّ كبير القضية الكردية، كما أن عدالتها لا تقل عن عدالة قضية أي شعبٍ مضطهدٍ، ومحروم من حقه في تقريره لمصيره، في العالم؟
هوشنك بروكا




التعليقات