إلى عيسى حلاوة
quot;لِكَي تَفتَحَ العُيونَ العَمْياء
وتُخرِجَ الأَسيرَ مِنَ السِّجْن
والجالِسينَ في الظُّلمَةِ
مِن بَيتِ الحَبْسquot;.
(اشعيا، 7:42)
يتسرّب العيد ببهجته وروحه وعطر محبته إلى زوايا منسية في العالم. ومن تلك الزوايا تصل رسالة الميلاد وفي جوهرها محبة وتضامن بين أهل الأرض وسكانها الأشقياء. قد يحسن إخوتنا الكتاب والصحفيون تسليط الضوء على المهرجانات الجذابة، ذات الأضواء والبهارج، في صالات الفنادق الفارهة. لكن مباهج العيد ومعانيه السامية قد تصل الى أطراف لا نرجّح فرحها في العيد، و قد توجه لنا رسالة بليغة في العيد. وفي هذا النطاق أسوق المثال التالي:
عيسى حلاوة، شاب طموح من قرية عين عريك قرب رام الله في فلسطين، أعرفه نظرا لتزاملي أثناء الدراسة في بيت جالا مع شقيقه الأكبر عزيز الذي أصبح كاهنا وهو اليوم كاهن الرعية في بيرزيت. تم القبض على عيسى عام 1990 من جنود الاحتلال. وخرج بعد سنتين، طامحا في بداية جديدة في حياته، فعمل... ثم تزوج وأنجبت زوجته ثلاثة أبناء.
وفي عام 2005، اقتحم الجنود منزل أهله ليلا وهو بينهم، فالقوا القبض عليه وعلى شقيقه الأصغر إيهاب.
ولم يخرجا الا بعد عشرين شهرا من الذل والمعاناة. وبعد خروجهما كتبتُ عنهما في ايلاف ووجهت الأنظار إلى المعاناة التي كابدتها والدتهما في زيارتها لابنيها كلما أتيحت لها الفرصة. اذ هي تحمل هوية القدس التي تتيح لها حرية التنقل، رغم المعاناة أيضا في الوصول إلى المعتقلات، وبخاصة في صحراء النقب.
ذهبت في أيلول الماضي إلى بيت لحم، للمشاركة في مؤتمر دولي نظمته جامعة بيت لحم الكاثوليكية حول العلاقات الإسلامية المسيحية في البلدان العربية وفي العالم. وذهبت إلى عين عريك، لزيارة عيسى وإيهاب وأهلهما الصابرين. فتحدثا عما لقياه من الذل والمهانة في السجن، دون أن توجه إليهما أية تهمة. وكم مرة عقدت المحاكم الأمنية جلساتها، ففشلت في إلصاق أي تهمة بالشقيقين.
في البداية كانا معا. إلى حين قررت السلطات نقل عيسى إلى سجن أكثر قساوة، في النقب، نظرا لكونه quot; يشكل خطرا حقيقيا على أمن البلادquot; على حد تعبير المدعي العام اليهودي. وحدثنا عيسى بألم بالغ عما يعيشه الأسير الفلسطيني. قد لا تكون وسائل التعذيب الجسدية مستخدمة في كل الأوقات... لكن من التفتيش إلى المحاكمة إلى العزل الانفرادي إلى منع الأهل من الزيارة إلى الوحدة القاتلة إلى سماع الأخبار عن تقاتل الإخوة الفلسطينيين في غزة. هي معاناة معنوية تختلط مع حبس الجسد في غياهب السجون.
سألت عيسى: ما الذي كان يشجعك على الصبر؟، فأطل بورقة كان يحتفظ بها في جيبه، كمن يحتفظ بكنز ثمين: هذا ما صبرني: وهي رسالة بعثتها ابنته ذات سبعة الأعوام، رسمت له عصفورا طليقا يخرج بفرح من القفص، وتقول له في الرسالة: أعلم بأنك تتألم يا والدي، ولكن اصبر وتحمل من أجلنا فنحن نحبك. أما إيهاب فقد قدم دراسة الثانوية العامة في السجن، وحصل الدرجة الرابعة على مستوى الطلبة الأسرى، وهو نظام خاص معمول به في الأراضي المحتلة.
إلا أن عيسى حدثنا أيضا عن عيد الميلاد في السجن، فقال:
كنت المسيحي الوحيد ضمن مئات الأسرى الفلسطينيين. جاء الجنود يوما لتفتيش مهاجعنا، وإذا مجنّدة ترفع بيدها صورة التقطتها من تحت وسادتي: ما هذا؟ فأجبتها صورة مريم العذراء تحمل طفلها يسوع. وهل أنت مسيحي؟ نعم. فقالت للجنود: لا تفتشوا هذا المهجع بعد اليوم ظنا منها أنها تقدم خدمة للمسيحيين. فقلت لها لا: أنا فلسطيني، ومثلما تعاملين أخوتي... عامليني.
إلا أن ما أثر بالأكثر، هو عيد الميلاد في سجن النقب. قال عيسى، تفاجأت بوفد من الأخوة الأسرى، أتوا إليّ ليلة عيد الميلاد، فقالوا، نحن نمثل كل الأطياف السياسية في هذا المعتقل. ومنهم إسلاميون... وأنت أخونا المسيحي الوحيد... لا نريدك أن تبقى وحدك. فقد جمعنا التبرعات من أجلك وسنحتفل معك بأجمل عيد هنا.
ترقرقت الدموع في عيني عيسى وهو يحتضن ابنته ويحدثنا: تصوّروا كم كانت فرحتي بعيد الميلاد العام الماضي. فقد علق السجناء معي كل زينة استطاعوا تدبيرها في ذلك المكان المنعزل. وأقاموا وجبة غداء كبيرة. ووزعوا الحلويات على كل السجناء... إذ لم يريدوا ولم يقبلوا أبدا أن أبقى وحيدا في العيد.
خرج عيسى بعدها من الحبس، ليس بمنّةٍ من أحد، بل لانتهاء مدة محكوميته مع أخيه إيهاب، بعد أكثر من عام ونصف... خرج يحمل في جسده أمراضا عدّة... وهو الآن يبحث عن عمل كريم يعيش به، إذ كان قبلها يعمل في quot;القصارة والتكحيلquot;، لكنّ جسمه لم يعد يحتمل هذا النوع من العمل الشاق. وها هو يعيش عيد الميلاد هذا العام مع أهله وزوجته وصغاره... لكنه حتما لن ينسى عيد العام الماضي... حيث تجلى التآلف المسيحي الإسلامي في أبهى صوره. وأين؟ في سجون الاحتلال.
كل عام وأنتم بخير
الأب رفعــت بدر
www.abouna.org
[email protected]
التعليقات