سواء شئنا أم أبينا فإن التقسيم الطائفي قد فرض نفسه في ثنائية (الأخ/ العدو) بين العرب وشيعة العراق
أولاً: قراءة في الحاضر (سحب الهوية العربية من شيعة العراق)
مهما كانت عملية تنفيذ حكم الإعدام بصدام مغامرة ارتجالية، أو عاطفة ثأرية أو فعل جاء تنفيذاً لإملاءات وأجندات خارجية، فإنه على كل حال أسس لمرحلة (شيعية) جديدة على الصعيد العراقي والإقليمي. فشيعة العراق لم يجربوا فيما مضى أن يكون لهم حبل يتدلى على الهاوية ويتوعد الرقاب العاصية بالموت. وفجأة التف حبلهم على واحدة من أعتى الرقاب التي عرفها التاريخ.
بصورة مفاجئة وسريعة تذوق الحبل الشيعي طعم الثأر، وسط تدفق سريع للأحداث، جعل من فعل التذوق يسبح وسط أمواج من التحدي المتبادل بينهم وبين العمق العربي الذي مارس الاضطهاد بحقهم على مر التاريخ؛ الأمر الذي استفز العلاقة القلقة بين الطرفين، ومن ثم مهد لمواجهة ثقافية مكشوفة تمثلت بالخطاب الإعلامي والسياسي الذي أحاط بذلك الحدث، وكرس معالم مرحلة جدية في التعاطي بين المكونين الثقافيين (الشيعي العراقي والعربي السني).
لقد كان الشيعة في العراق وإلى يوم تنفيذ الإعدام يراوحون بمنطقة المحكوم. بكل ما لهذه المنقطة من امتداد يستوعب زمن رحلتهم من منافي المعارضة إلى كراسي البرلمان. ولم يجرؤ الشيعة ـ حتى بعد تحقيقهم الأغلبية البرلمانية ـ بالقفز على خيارات (الحاكم) السني، فهم لم يفكروا بتشكيل حكومة الاستحقاق، بمعنى أنهم لم ينجحوا باتخاذ قرار التحول من منطقة المحكوم إلى منطقة الحاكم.
ثم جاءت لحظات الإصرار على تنفيذ حكم الإعدام لتمثل أولى الخطوات المصيرية التي تجاوزوا من خلالها منطقة المحكوم باتجاه كرسي الحاكم. وهم يخوضون واحدة من أخطر مغامرتهم في سعي غير مقصود لتأسيس معالم شخصيتهم الاجتماعية المستقلة.
لم يبدوا على فعل التنفيذ أنه ارتكز على تخطيط استراتيجي يحاول التأسيس لانعطافة في تاريخ الشيعة. بل كان ذو أبعاد ثأرية، وهو بلا شك انطلق من محركات طائفية. غير أن تحولات الأحداث وردود الفعل العربية العاصفة بصورة خاصَّة، نبهت الشيعة إلى أنهم داسوا على رأس التنين العربي النائم. لقد استيقظ الشيعة على زعيق التنين العربي (السني) الذي أخافهم تاريخهم كله. وهالهم أن رأس هذا التنين صار بشكل أو بآخر تحت أقدامهم ودون أن يخططوا لهذه النتيجة بشكل مباشر. وكانت المفاجأة الكبرى تكمن باكتشافهم أن هذا التنين لم يعد يملك غير الزعيق ولا يخرج مع زفيره غير الدخان الخفيف والبارد. وعندما تمكن الشيعة من تجاهل الزوبعة العربية الإعلامية التي رافقت تنفيذ حكم الإعدام بكل ما أحاط بها من تداعيات تتعلق بانتهاكهم حرمة العيد المقدسة وتحديهم للضغوط الإقليمية. وأخيراً تحويلهم لعملية التنفيذ لحفلة دينية تعصف فيها شعارات الطائفة والمذهب، بشكل سافر واستفزازي، بعد أن تجاوزوا كل ذلك كانوا قد استيقظوا على فجر يوم جديد بالنسبة لهم.
الجرأة التي قادت الشيعة لمرحلة تنفيذ الإعدام بهذا الشكل ليست وليدة لحظة بطولية تملكت جواد المالكي. بل هي نتيجة حتمية لسلسلة من التداعيات السياسية والأمنية والاجتماعية منذ تغييرات 2003.
كانت أولى عمليات التحدي أو التماس الواضحة بين الطرفين (العربي والشيعي) هي عملية انتقال السلطة بين بريمر وعلاوي، تلك العملية التي أحيطت بزوبعة إعلامية (عربية/ إسلامية/ أصولية) لدرجة أن البعض هدد: بأن المضي بهذه العملية سيؤدي لتحرك التنين العربي بشكل يهدم العملية السياسية في العراق من أصولها ويعيد البلد لنقطة الصفر. غير أن النتيجة جاءت مثيرة للدهشة إذ تمت عملية الانتقال بشكل مفاجئ تلته فترة لا بأس بها من الهدوء النسبي الذي لا يتلائم وحجم التهديدات ولا المخاوف. بعد ذلك توالت الأحداث المفصلية التي تكرر خلالها نفس سيناريو التهديدات الفارغة والقراءات غير الواقعية (الانتخابات.. التصويت على الدستور.. البدء بمحاكمة صدام.. النطق بالحكم.. وأخيرا تنفيذه).
العقل العربي كان ولا يزال عقلا بطولياً شعاراتياً، لا ينطلق عن الواقع المحسوب والمدروس وفق منطق متماسك، بل ينطلق عن النظرية المحسوبة وفق منطق يقوم على مقدمات خيالية، أو هي ليست واقعية. ولهذا السبب فإن هذا العقل ومن وراءه كل المجتمع العربي لم ينجح إلى الآن في تجاوز محنة واحدة من محنه الكثيرة وعلى امتداد تاريخ طويل؛ والسبب هو أن الأهداف التي يخطط للوصول إليها أكبر دائماً من قدراته الواقعية على الأداء في ميدان الصراع. وهكذا نجده دائماً يعجز عن إتمام المسيرة. وسيبقى كذلك ما دام يستند لمنطق خيالي.
كان الهدف من وراء ضرب برجي التجارة هو الدخول بالصراع المباشر مع أميركا، وفي عقر دارها. وسرعان ما اكتشف العقل الذي حدد هذا الهدف بان الحرب التي أعلنها هو، وحدد ميدانها، أكبر بكثير من قابليته على المطاولة في الصراع. وكانت تداعيات نكسة حزيران كذلك. والحرب على إيران وأيضاً احتلال الكويت. كل هذه الخطوات قام بها عقل يعاني من هذه الأزمة.
لقد حوَّل السنة (العرب) موضوع القضاء على دكتاتورية صدام في (2003) من كونها نهاية دكتاتور عابث بالدماء، إلى كونها منازلة بينهم وبين الشيعة. لم يفهم الشيعة في البداية أسباب هذا التحويل، ولذلك فقد تأخروا نسبياً في التعاطي مع هكذا واقع.
فوجئ الشيعة في العراق بالكثير من المواقف العربية، ومنذ الأيام الأولى للإطاحة بصدام، وكان من أكثر الأمور التي جعلتهم مدهوشين هو ازدواجية الموقف العربي حيال صدام. هذه الازدواجية التي لم يجدوا ورائها غير الدافع الطائفي. الأمر الذي نبه كبارهم لحجم الغول الذي ينامون بجانبه على سرير واحد ودون أن يشعروا. وإلى وقت قريب لم يصدّق جناح كبير من الشيعة بنظرية الجدار القوي الذي يفصل بينهم وبين السنة، وإلى وقت قريب كان التيار الصدري يعلن أهدافاً وطنية ويسعى لمقاومة موحدة في العراق. غير أن الارتجال الذي كان يعمل وفقه سنَّة العراق ومن ورائهم الإقليم العربي أسقط أجهض محاولات تأسيس المقاومة الوطنية الموحدة.
إن قيام العمق العربي بالتنكر للأغلبية العربية الشيعية أخافها وعمَّق من نزوعها اتجاه ما يمكن تسميته بـ(الانفصال الاجتماعي) ولهذا السبب راح الشيعة ـ ورغم تعدد تياراتهم واختلافها ـ يحاولن الاصطفاف داخل أجندة موحدة.. الأمر الذي أنتج حالة من الاصطفاف الطائفي التام والذي وصل حدود رسم ملامح طائفية جغرافية على الأرض من خلال عمليات التهجير القسري.
لا بد من الإشارة إلى أن الكثير من الاستفزازات الطائفية التمييزية بدأت من بعض فصائل الشيعة وخاصّة التيارين الأبرز (المجلس الأعلى والتيار الصدري) من خلال ولاء الأول لإيران والذي أشرته الكثير من المناسبات، كان أبرزها دعوة عبد العزيز الحكيم لتسديد ديون إيران التي بذمة العراق. حيث أثارت هذه الدعوة سخط الشارع العربي السني واستفزت مخاوف الكثيرين من ذراع إيراني طويل في العراق.
أما بالنسبة للتيار الصدري فيمكن أن نقول بأن عمليات استيلائه الفاضحة على الجوامع السنية وبشكل تعسفي وقسري، أثارت مخاوف السنَّة من عملية تشييع يمكن أن تجتاح العراق وتهدد وجودهم.
بالنتيجة لقد اشترك سنة وشيعة العراق بعملية الإعداد للفصل الطائفي بين الفريقين، لكن يبقى الحكم بتساوي الطرفين بهذا الإعداد حكماً متعسفاً. فقد كانت الإرادة السنية الواقفة خلف والمغطية للمد الطائفي التكفيري أكثر وضوحاً واستفزازاً بكثير من الفعاليات الشيعية الواقعة بنفس السياق، والتي يبدوا على الكثير منها أنها فعاليات شعبية عفوية. لقد أحجمت المؤسسة الدينية السنية ولوقت طويل عن احترام دماء الشيعة وتحريم العمليات التي تستهدفها بشكل واضح وصريح، وهذه التصرفات بقيت غير مفهومة من قبل الشيعة، إلى أن تمكنت من إنتاج ثقافة ما يسمى بـ(عصابات الموت) التي يبدوا عليها أنها عصابات شيعية متنفذة، وهكذا صار شرخ الهوية بين المكونين أكبر من كل محاولات لم الشمل.
ثانياً: قراءة في الماضي.. (الجذور العميقة للثنائية)
مع قطع النظر عن أن الملامح الطائفية للمشهد الأخير في الانقسام العربي العراقي تبدوا وبشكل جلي وكأنها استثمار ناجح لرأسمال أمريكي كبير. ومع قطع النظر عن أن هذا الانقسام يُكَرَّس كدرع تلبسه الولايات المتحدة في صراعها مع إيران. ومع قطع النظر ثالثة عن أن المطبلين لهذا الانقسام من سياسيين قوميين أو إسلاميين متطرفين هم ثلة مهرجة لا يمكن اعتبارها مرآة لرأي النخبة العربية. مع قطع النظر عن كل ذلك، لا يمكن لنا أن نقفز على المفردات (التاريخية/ المجتمعية) التي يمكن اعتبارها رحم حاضن ومبرر كاف للانقسام. بل يجعل منه ـ وعلى أقل تقدير ـ فعل ضروري إن لم يكن حتمي، بالنسبة للاحتكاك الطائفي بين العمق العربي السني والأغلبية الشيعية العراقية، وتأتي ضرورته في أنه يساعد على تنفيس الكثير من الاحتقان العاطفي بين الجهتين أو المكونين. هذا الاحتقان الذي ينشأ دائماً بسبب تضاد المصالح الذي تجلبه وجهات النظر المختلفة. ولا يمكن لنا أن ننسى المأزق الذي وضع فيه شيعة العراق خلال الحرب العراقية الإيرانية كمثال صارخ على تعارض المصالح الناشئ عن تقاطع وجهات النظر. فهذه الحرب كانت مكرسة لحماية المذهب السني من أي تصدير محتمل للثورة الإيرانية (الشيعية). ولم تكن المفارقة في هذا المأزق مقتصرة على تحول الشيعة لوقود في حرب موجهة ضد هويتهم المذهبية. بل تجلى المأزق أيضاً بكون هدف هذه الحرب هو حماية عدوهم اللدود صدام حسين. هذا المأزق الذي اعْتّبِره نتيجة حتمية لتضاد المصالح واختلاف وجهات النظر لم ينشأ فقط عن تداعيات الثورة الإسلامية الإيرانية، ولا عن الصراع المحتدم على مياه الخليج، أبداً لأن هذا المأزق ابن شرعي لتاريخ ممتد من النزاع والصراع بين ثلاث حضارات كبيرة، الفارسية والعربية والتركية، ويعتبر الكثير من المؤرخين أن تبني الدولة الصفوية للمذهب الشيعي كان نتيجة من نتائج هذا الصراع، وليس مسببة له. الأمر الذي أعطى للصراع بعداً أيديولوجيا زائداً عن بعده العنصري مما أدخل شيعة العراق ككبش في محرقته.
ثالثاً: قراءة في المستقبل.. (هل يمكن للثنائية أن تكون مفيدة)
ما يمكن الاطمئنان إليه بعد تداعيات إعدام صدام أن شيعة العراق استطاعوا الخروج من الجدل الذي تمليه عليهم الطبيعة المزدوجة لمكونهم (الفكري/ العرقي)، وباشروا بعملية الانعتاق من دوامة أنهكتهم تاريخهم كله، وهم الآن في طريقهم لفهم خصوصية ذاتهم. بمعنى أنهم بدأو يدركون بأنهم ليسوا شيعة فقط ولا هم عرب فقط. هذا الإدراك الذي أخذ ينموا داخل العمق الجماهيري ونحس بصداه عاليا، يعني ويساوي بداية تماسك شخصية عراقية تملك استقلالاً نسبياً يكفي لبداية مشوار حضاري غني، يمثل دوراً تنويرياً في المنطقة. ومع أن لإيران أذرع شيعية سياسية متنفذة في الوسط الجماهيري الشيعي العراقي.. إلا أن رهانها على هذه الأذرع بدأ يخسر؛ لأنه رهان دموي في شروعه وتدميري في استمراره. ومثل هذه الرهانات ثبُت انهيارها السريع تاريخياً، كما أن تهافت أجهزة الإعلام (العربية والأمريكية) على تسليط أضوائها الكاشفة على هذه الأذرع أثار حفيظة الشارع العراقي الشيعي من خطورتها. والأهم من ذلك كله أن المرجعية الدينية في النجف ومن خلال قطبيها الأبرز (السيستاني/ الصدر) لم يبد عليها إلى الآن أنها تميل لدعم أي مخطط إيراني في العراق، وهذا الأمر بحد ذاته يساعد على تمزيق صورة إيران البراقة في المخيال الشيعي العراقي. ومن جهة أخرى جاءت عملية تحالف الشيعة مع الكورد ـ الذين يملكون استقلالاً مميزا وهوية اجتماعية قوية ـ في إطار العملية السياسية ليعمق من ثقة الشارع الكودري بعراق يستوعبهم. ما عجل بالتئام بعض الشروخ التي برزت في صورة الكورد الوطنية بعد سقوط الدكتاتور بأيام.
إذن نستطيع الاطمئنان إلى إن الذات العراقية وفي شطريها الشيعي والكوردي في طريقها للتوحد، الأمر الذي يبشر ببناء شخصية وطنية واحدة تذوب خلالها كل مبررات التشضي والاختلاف.
بقي هناك حاجة ملحة للاطمئنان على ولاء سنة العراق ومدى قدرتهم على الاستقلال بشخصيتهم عن عمقهم العربي، وملائمة الأحداث ومساعدتها على مثل هذا الاستقلال. لتنغلق بذلك دائرة العراق الحضارية على نفسها لوقت يكفي لعودة شواخص هذه الدائرة للبروز من جديد في مخيال الجماعة العراقية وبمكوناتها الثلاث الأبرز من أجل أن تعود الأمور لنصابها التام، ويباشر العراق وانطلاقا من هوية واحدة تستوعبهم انطلاقة اعتقد أنها ستمارس دوراً تغييرياً خطيرا في المنطقة.
سعدون محسن ضمد
التعليقات