لا شك ان ملامح الصورة التي رسمتها احداث ما عرف ndash; بانهيار الاتحاد السوفياتي- وما بعيدها لروسيا لم تعد موجودة بعد مضي اكثر من عقد ونصف من السنين وان روسيا التي خرجت من تحت الانقاض معلولة الجسد مشوهة الوجه بدات تتعافى وجراحاتها بدات تلتئم منذ ان تنحى رجلها المريض ndash; بوريس يلتسين ndash; عن سدة الحكم وسلم السلطة لناس كانوا ولا زالوا اهلا لها على ما يبدووكان هو ndash; اي يلتسين ndash; من اكتشفهم ليرد بذلك عن نفسه الكثير من سهام المنتقدين لفترة حكمه وفساد ادارته وادمانه المستمر. لقد تغيرت صورة روسيا في عهد فلاديمير بوتن تماما ولم يعد مصطلح الدب الروسي مناسبا لما تقوم به روسيا اليوم من بهلوانيات سياسية واستعراضات عسكرية وجذب الكثير من مراكز الثقل الاقتصادي ومراكز اتحاذ القرارات الدولية الى صفها في مواجهة الصلف الامريكي والساسة الامريكيين الذين ظنوا لوهلة انهم اصبحوا من دون ند في رسم سياسة العالم وخارطة المصالح الاقتصادية وانهم لوحدهم قادرون على فرض سياساتهم على بقاع العالم الحيوية وضمان استمرار مصالحهم دون منافس.. ولعل احداث السنوات الاخيرة اثبتت دهاء الروس من جديد فروسيا مثلا كانت من اكثر الدول متضررة من حكم طالبان في افغانستان واكثر من دفعت فواتير الخسائر فيها لكنها عرفت مدى الحرج فيما لو اقدمت على مغامرات جديدة او حتى لو انسحبت من البلاد ولذلك ظلت تراوح المكان وتدفع فواتير حروب ومعارك محدودة الى ان انقلب نظام طالبان والقاعدة على الامريكيين واقدام الاخيرة على اسقاط حكم طالبان وتولي مهمة الحرب ودفع فواتيرها الباهظة لتنسحب روسيا من المسرح الافغاني بهدوء وكانها لم تكن معنية بامر هذا البلد من قبل.

اما في موضوع العراق فقد كانت روسيا اكثر دولة مستفيدة من الوضع الذي تازم بين العراق وامريكا واستمر قرابة عقد ونصف من الزمن وظلت تستثمر علاقاتها المتوازنة في جعل العراق بقرة حلوب حتى وقوع الحرب الامريكية عليها قبل اربعة اعوام لتنسحب بغنائمها التي جنتها خلال سنوات الحصار و التي تضاعفت لحظة وقوع الحرب نفسها لتعود وتطرح اليوم نفسها من جديد شريكا قويا ولكن مع السلطات القائمة دون ان تدفع اية خسائر او تنفق على تمويل الحرب التي اسقطت النظام السابق وعلى الدوام تتخذ روسيا مواقفها في المحافل الدولية لصالح اهدافها المستفبلية دون ان تستميت في الدفاع عنها او تنزلق الى حد الصدام مع القوى الكبرى ا و مواقع تضارب المصالح الاستراتيجية معها او على الاقل مع الاوربيين ولا سيما مع فرنسا والمانيا كما حاولت دائما ان تستثمر موقعها بين الشرق والغرب من جهة وعلاقاتها القديمة مع الدول النامية والاشتراكية السابقة وعلاقتها المستحدثة مع الدول الصناعية الكبرى في كسب المزيد من المساعدات المالية من الاخيرة والمزيد من الاستثمار والتبادل التجاري والعسكري مع الاولى تماما مثل المنشار الذي ياكل الخشب جيئة وذهابا وقد يتجلى ذلك بوضوح في مواقفه المرنة جدا من برنامج كوريا الشمالية النووي ومحاباة الصين اما قصة التحالف الصامت مع ايران فهي الاخرى دلالة ساطعة على مكر الساسة الروس ودهائهم اذ لا توجد ارقام وتفاصيل دقيقة معلن عنها عن حجم التبادل التجاري والعسكري بين الطرفين الا ان بعض العارفين بدواخل الامور والمهتمون بالشان الروسي لا يخفون دهشتهم من حجم المساهمة الروسية في البرنامج النووي الايراني وبالتالي حجم الدخل الذي حققته روسيا من علاقاتها المريبة مع ايران في المجال النووي والعسكري. فخلال السنوات العشر الاخيرة ربما جنت روسيا من صفقاتها مع ايران والعراق وبعض الدول الاخرى ما مكنها من النهوض الاقتصادي الحالي والانتعاش الذي يشهده البلاد وتشهده مؤسسات المال الروسية وانتشار الاستثمارات والشركات الروسية بقوة خلال الفترة الاخيرة في دول الاتحاد السوفيتي السابق والتحسن الكبير الذي طرا على مستوى المعيشة ودخل الفرد.. ياتي دون شك في هذا السياق.

زيارة بوتن الى السعودية هي الاولى لرئيس روسي يزور السعودية والوفد الكبير الذي رافقه والذي شكله بوتن بنفسه و حتى الطاقم الصحافي والاعلامي الذي زودهم بتوجيهاته في عدم تجاوز العرف والتقاليد السعودية تاتي بمثابة عرض للعضلات الروسية في احد المعاقل الامريكية السابقة واهم دولة نفطية عربية في الوقت الذي تلوثت امريكا اكثر في الوحل العراقي وبدا على صقور ادارتها التعب والانهماك والارتباك وتعالت اصوات المعارضين لاستمرار الحرب.

الزيارة التي قام بها بوتن نفسه الى ثلاث دول في المنطقة والرسائل التي حملها للرئيس الطاجيكي امام علي رحمانوف الى كل من الرئيس السوري والمصري تاتي في سياق التحرك الروسي المكثف والمتكامل وطرح نفسها شريكا اقتصاديا وعسكريا لدول المنطقة وعرض الاسواق الروسية امام الرساميل العربية المهاجرة الى الغرب وما وراء المحيط... وايضا الهمس في اذان الحكام العرب والخليجيين بان امريكا غير قادرة على ردع الخطر الايراني الذي تهابونه وتحقيق السلام والامن في الخليج بدليل انها لا زالت تتخبط في الوحل العراقي دون ان يلوح في الافق حتى بعد مرور اربع سنوات مخرج قريب او استراتيجية واضحة وان مفتاح القوة الايرانية والشفرة التي ستطلق السلاح الايراني هي روسية الصنع والتصميم وان روسيا مؤهلة وقادرة على اداء دور البطل في المسرح الخليجي باجرة اقل بكثير مما تطالب به بلاد الهوليود... اضافة طبعا الى تاثير القرار الروسي في المحافل الدولية والقضايا الاخرى.

الكرة الروسية اصبحت اذا في الطرف الخليجي والعربي عموما والذي عليه اما ان يبقى كما الان مجرد متفرج على الاحداث التي تدولر حوله او ان يحدد الخيار ويحسم القرار لصالح احد الاطراف فاما ان يستانف الطرف العربي قدما بدفع وتحريك منظومة علاقاتها واتفاقاتها المبرمة والمرتبطة بالامريكان بحجة ردع اسرائيل ولجم اطماعها التوسعية في المنطقة العربية وتحدي الشفرة الروسية في ايران والموافقة في هذه الحالة على صرف الفواتير التي تقدمها الادارات الامريكية او ان تعيد النظر في سياساتها القديمة وعلاقاتها مع الغرب وتمنح روسيا بطاقة الدخول الى الملعب الخليجي وبالتالي حلبة الصراع في الشرق الاوسط من جديد ويبدا التنافس على المناطق الحيوية في العالم من جديد ولكن بين اكثر من طرفين هذه المرة فالاوربيون بدؤوا وحدتهم وبنوا مصالحهم الخاصة بهم والتنين الصيني دخل بقوة الى الاسواق العالمية وبلاد العم سام طبعا وروسيا ولكن ليست روسيا خرويشوف وجعيره وضربات حذائه على طاولة الامم المتحدة ولا روسيا يلتسين المضطربة وانما هذه المرة روسيا بوتن ndash; الثعلب- الذي انهى دور الدب الروسي على ما يبدو واحاله الى التقاعد.

صلاح علمداري

[email protected]