فتاويٍ بلا انقطاعٍ، في الصحفِ والفضائياتِ والجلساتِ، أياً كانت، في كلِ الموضوعاتِ، من أي لسانٍ، تُحرِمُ وتمنعُ أكثرَ مما تُحلِلُ وتُبيحُ. مضي زمنٌ كانت فيه الفتاوي من متخصصين، اختلفوا وتعارضوا علي الرغم من تعمُقِهم، اليومَ تُضخُ الفتاوي بلا علمٍ ولا تبحرٍ، بالرغبةِ في الظهورِ وكسبِ المالِ، في زمنٍ عمَت فيه البطالةُ والهزيمةُ والاندحارُ، ثقافياً وسياسياً واجتماعياً. ما أسهلَ أن تكون في جِلسةٍ فيهبُ نكرةٌ منتفضاً لكلمةٍ عفويةٍ، quot;حرامٌquot;، لقد سمعتها في الفضائياتِ وقرأتَها علي الإنترنت، هكذا بمنتهي البساطةِ!! الكلُ يتقمصُ شخصيةَ المفتي، لإثباتِ الذاتِ، أيسرُ وسيلةٍ، تُغني عن مجهودِ اكتسابِ الثقافةِ والإطلاعِ.


سيولُ الفتاوي ظاهرةٌ مرضيةٌ في مجتمعاتٍ فيها التواكلُ هو القاعدةُ، صناعُ الفتاوي يُعملونها في أمةٍ كَسُلَت عن التفكيرِ، أنابَتهم عنها في استخدامِ عقولِهم، استخدموها بالفعلِ، لكن فيما يُعطلُ ويُدمرُ ويُتلفُ. فتاوي تناولَت الجلوسَ والوقوفَ والقيامَ والقعودَ والنومَ والأكلَ والمشيَ والحديثَ والسكوتَ والضحكَ والبكاءَ ودخولَ دوراتِ المياهِ والخروجَ منها، لم تترك شيئاً، جعلت الحياةَ سيراً علي حبالٍ ممدودةٍ أعلي براكينٍ من نارٍ. ما كان مُتعارفاً عليه لعشراتِ السنينِ أصبحَ حراماً، فجأةً، وكأن السابقين غَفِلوا وما فَهِموا.


المفتون علي كلِ لونٍ، شيوخاً وشباباً، رجالاً ونساءً، تتفاوتُ أساليبُهم ما بين التشنجِ والصراخِ إلي الهدوءِ والابتسامِ، منهم من يستخدمُ لغةَ الأيادي المُشوِحةِ الضاربةِ بعنفٍ، ومنهم من يُفضلُ لغةَ الحواجبِ اللعوبِ والشفاهِ المَمطوطةِ. أما الأزياءُ فتتراوحُ بين التقليدي والحديثِ، دونَ المساسِ بجودةِ القماشِ والساعةِ والنظارةِ والمِسبحةِ.


لما كَبُرَ سوقُ الفتاوي وتشبعَِ، مهنةُ من لا مهنةَ له، بدأت البطالةُ تضرِبُ بعض المفتين، أخذت شمسُهم في الأفولِ، التمسحُ في الدينِ يتسعُ، وجدوها، إنها الأحلامُ، لتُفَسرَ وتُؤولَ، جلبوا لها الأسانيدَ، ساقوا الأدلةَ، مرةً أخري انفتحَت لهم أبوابُ الصحفِ والفضائياتِ وجلساتِ المشاهيرِ، روادُهم كثيرون، هدَهم تَعبُ الحياةِ، عجَزَت عقولُهم، في الأحلامِ ومفسريها هروبُهم من الواقعِ، فيها ما يُغنيهم عن عناءِ التفكيرِ والتدبُرِ.


وضعٌ بلا شبيهٍ في عالمِ اليومِ، عقولٌ أُلقيت في المخازنِ، البغبغةُ والانقيادُ أيسرُ من تحملِ المسئوليةِ، الدخولُ في جبِ فتاوي بلا دليلٍ، الاختباءُ في كهوفِ أحلامٍ صنعَتها حياةُ كئيبةٌ، الاحتماءُ بالسحرةِ والمُشعوذينِ والمنجمين، كلُها أعراضٌ مرضيةٌ لمجتمعاتٍ فقدَت أسسَ استمرارِها علي قيدِ الوجودِ، خابَت في المنافسةِ بفعلِها، تعلقَت بأهدابِ اللاعقلِ واللاوعي واللايقظةِ،،

ا.د. حسام محمود أحمد فهمي