هللت إحدى الفضائيات، من أبواق الإسلام السياسي المعروفة، لدخول الحجاب، الرمز السياسي وليس الديني، لأول مرة إلى القصر الجمهوري في تركيا العلمانية الحديثة، باعتباره سيكون quot;فتحاًquot;، وتمهيداً لعودة الخلافة العثمانية الإسلامية الموعودة، والتي تذرف الدموع، وتتباكى عليها، ذات المحطة، آناء الليل وأطراف النهار، فقط. غير أن حساسية الموضوع، وأبعاده الأمنية والجيوبوليتكية، والتطورات اللاحقة أظهرت أنه من المبكر جداً الحديث عن التبشير، أو قيام أي نوع من الاحتفالات بهذا الشأن. فناهيك عن المعارضة ا القوية لانضمام quot;تركيا الإسلاميةquot; إلى الاتحاد الأوروبي، التي تتبناها قوى أوروبية فاعلة، وتجسدها، على سبيل الذكر لا الحصر، المستشارة الألمانية أنجيلا ميركيل، فهناك معارضة قوية داخلية، لمشروع الإسلام السياسي التركي. كما صدرت، مؤخراً، مواقف مماثلة عن المرشح الأقوى للرئاسة الفرنسية وزير الداخلية ميشيل ساركوزي، الذي أعلن وبالفم الملآن معارضته لانضمام تركيا للكيان السياسي الأوروبي الراقي، ولا يقبل أن تكون، مطلقاً، عضواً في الاتحاد الأوروبي.
وأمر هذه المعارضة العنيفة لم يقتصر، كما أسلفنا، على الخارج المتوجس من كل ما هو إسلامي، بل تعداه إلى قلب الداخل التركي، وتحديداً، إلى المؤسسة العسكرية التركية التي أقسمت يمين الولاء، والحفاظ على الطابع العلماني للجمهورية التركية. فلقد تحركت على الفور تلك المؤسسة العسكرية التركية، الضامن الوحيد للجمهورية العلمانية التركية التي أنشأها مصطفى كمال (أتاتورك-أبو الأتراك) 1881- 1938 وقام وقتها بإلغاء الخلافة العثمانية الإسلامية 3 مارس/ آذار 1924، وأصدرت هذه المؤسسة بياناً شديد اللهجة حذرت فيه من أي مساس بمبادئ الجمهورية العلمانية، وأعلنت أنها ستتدخل وبالقوة لمنع quot;محجبةquot;، من دخول القصر الجمهوري الأمر الذي يشكل انتهاكا للأسس العلمانية التي قامت عليها الجمهورية التركية الحديثة وهي العلمانية التي نهضت بتركيا وحولتها من رجل أوروبا المريض والمتهالك، إلى قوة أورو- أسيوية إقليمية عصرية يحسب لها ألف حساب.
الثنائي الإسلاموي أردوغان - غول، اللذان يتبعان مدرسة التقية، ويمارسان، بدهاء، شعار quot;نتمسكن حتى نتمكنquot;، يحاولان الإطباق على ما تبقى من رمز علماني لتركيا واجتياح قطب السلطة التركية الآخر وهو رئاسة الجمهورية، بعد رئاسة الوزارة، إضافة إلى الغالبية التي يتمتعان بها في البرلمان عبر مقاعد حزب العدالة والتنمية الذي ينتميان إليه، لم يقدرا على ما هو ظاهر، عواقب، ومخاطر هذه الخطوة، والمغامرة السياسية المكشوفة على حاضر ومستقبل تركيا واستقرارها، ونسيا، مؤقتاً، تجربة سلفهما نجم الدين أربكان، زعيم حزب الرفاه المنحل، وهو الأب الروحي لـquot;العدالة والتنمية الأردوغانيquot;، والذي انتهت تجربته هو الآخر إلى مأساة وكارثة سياسية بكل المقاييس وتمت تصفيته وإنهاء مستقبله السياسي، وحكم عليه بـquot;الإعدام السياسيquot;، عبر قرار بالسجن لمدة سنتين وأربعة أشهر وإقامة جبرية على خلفية فضيحة واختلاسات مالية. إذ لا تسامح، ولا تهاون لا تركي ولا أوروبي، البتة، مع حرف تركيا عن مسارها العلماني. فتركيا ذات طابع إسلامي سياسي، هي على ما يبدو خطاً أحمراً، تثير مشاعر الخوف والوجل والتوجس والارتياب لدى الجميع، بعد أن اكتوى كثيرون من تاريخها الذي حازت تركيا بموجبه، ذات يوم، وبشرف لا تحسد عليه، على لقب رجل أوروبا المريض، نافية بذلك أي بعد أو قدسية ميتافيزيقية لمشروعها الإسلاموي، والذي تقطعت أوصاله فيما بعد إلى بؤر إسلامية هزيلة تعج بالتخلف والتطرف في قلب أوروبا ومتخلفة عنها بعدة قرون، ولا يتصور أحد أن يعود ذاك النموذج الكابوسي مرة أخرى في هذا التجمع السياسي الذي يغلب عليه الطابع المسيحي.
ولقد أدت مظاهرات واحتجاجات عنيفة، جرت قبل ذلك، إلى سحب طيب رجب أردوغان لطلبه بالترشيح للرئاسة. غير أنه وفي الواقع لا فرق سياسي كبيراً بين المرشح للرئاسة التركية عبد الله غول ورئيس الوزراء رجب طيب اردوغان، واعتبر ديدييه بيون المختص بالشؤون التركية أن حزب العدالة والتنمية، لجأ إلى خيار غول للترشح للرئاسة لنزع فتيل الأزمة التي قد تنشأ ضد الحزب، وضد توجهه الإسلامي بالذات. واعتبر ذلك خيارا ذكياً، حسب الباحث الفرنسي ديديه بيون نائب مدير معهد العلاقات الدولية والإستراتيجية في باريس. وفي الواقع فإن الأمر برمته ليس موضوع غول، أو أردوغان، فكلاهما وجهان لعملة سياسية واحدة منتهية الصلاحية، بل موضوع مشروع ونهج قائم على إستراتيجية شاملة تتبنى الصدام مع الداخل، كما مع الخارج، مع الحداثة كما مع العولمة، في حال نجاحه، وهنا مكمن خطورته، ويمثل تحدياً للقيم والمبادئ الحداثية التي قامت وتقوم عليها الجمهورية التركية، عبر محاولة إعادتها، وعبر رمزيات سياسية، إلى عصور تخطاها الأتراك، وكابدوا في سبيلها الكثير. والجميع الآن بانتظار الحسم يوم الأربعاء القادم حيث سيصدر قرار المحكمة الدستورية العليا، التي تتسم بميولها العلمانية، لجهة تأييد أو رفض ترشيح غول لرئاسة الجمهورية التركية، أو الدعوة لإجراء انتخابات جديدة.
إن الدفع بالأمور، من قبل رموز الإسلام السياسي في تركيا، بهذا المنحى وإظهار الوجه والطابع العقيدي والإيديولوجي لهذه المعمعة لا يصب، البتة، في مصلحة تطلعات تركيا الأوروبية، ويخلق توجساً وارتياباً كبيرين عند ساسة أوروبيين حتى المعتدلين منهم، لاسيما في ظل بقاء ملفات مرهقة وثقيلة دون حسم كالخلاف حول قبرص، ومذابح الأرمن، والأرق الكردي المزمن. فصورة المشروع السياسي الإسلامي ليست على ما يرام، وفي أحسن حالاتها في هذا الوقت بالذات، ليس في تركيا وأوروبا فحسب، بل في قلب، ومنبع الإسلام الأصولي السياسي، أي في العالم العربي، بالذات، ويلقى معارضة تأخذ طابعاً عنفياً أحياناً.
ومن هنا، إذا كان من حق بعض العرب المسلمين أن يتوجسوا من مشاريع الإسلام السياسي قيراطاً، فإن من البديهي، عند ذاك، أن يتوجس الأوروبيون، ومن لف لفهم من نفس المشروع، وبأقل نسب التشاؤم توفراً، أربعاً وعشرين قيراط.
نضال نعيسة
التعليقات