تابعت قبل أيام على شاشة التلفاز - شأني في ذلك شأن الملايين في مختلف أصقاع الدنيا- حفل تسليم السلطة وتسلّمها بين الرئيس الفرنسي المغادر جاك شيراك، والرئيس الفرنسي القادم نيكولا سركوزي. فقد دخل الأخير بإعتزاز مستمد من ثقة الشعب التي نالها بوضوح على مرآى ومسمع من العالم باسره - هذا على الرغم من التساؤلات المثيرة للجدل حوله، والمواقف المتعارضة منه-؛ وخرج شيراك بكبريائه وشموخه ليعلن احترامه لإرادة الشعب الفرنسي، والتزامه بما ذهب إليه. تصافح الرجلان، وعقدا اللقاء المنتظر المعهود الذي تضمن قيام الرئيس المغادر بتسليم القادم عهدة الأمة، بما في ذلك المفاتيح النووية ورموزها. وعادا ثانية إلى الجمهور المأخوذ بسلاسة الإنتقال، وجمالية الديمقراطية. لم يتوقع أحد لا في قصر الأليزيه، ولا في كل زاوية من زاويا الأرض، أنه ستكون هناك عملية غدر أو خيانة تقودها دبابات الجيش، أو أدوات الأجهزة الأمنية، لتقضي على الرئيس المنتخب، وتنصّب بديلها الخاص.


تصافح الرجلان ثانية، ثم غادر شيراك وسط احتفاء الجميع وتصفيقهم بمين فيهم الرئيس الجديد نفسه. خرج شيراك من قصر الأليزيه ليدخل التاريخ من أوسع ابوابه؛ ودخل سركوزي إلى قصر الأليزيه ليصنع التاريخ الذي سيحكم عليه بعد انتهاء ولايته.
كنت أراقب المشهد بعمق وجداني، أحترم ما يجري، وأتفاعل معه من الداخل. لكن غصّة دفينة ألمت بالجسم والذهن، ودفعتني من دون إرادتي إلى التفكير متسائلاً بصوت متهدج مسموع: متى سيحدث هذا في بلادنا؟ كنت أعتقد انني أناجي نفسي وحدي. فمثل هذه المواقف تسلبني في الغالب مما حولي، وتجعلني استشف تجليات الحالة، وروائعها الإيمائية. لكن صوت صديقي شدّني إلى الواقع الذي كنت على وشك مغادرته ولو للحظات ضوئية سريعة، تكون غالباً كافية لصقل الانتباه، والتأمل بذهنية صافية لم تتلوث بعد بعفن الإفساد وتقيّحاته.


يبدو ان صديقي كان هو الآخر متعايشاً مع اللحظة حتى الثمالة، ومن هنا كان تعليقه على ما ذهبت إليه: لن يحدث هذا في بلادنا أبداً..
وتوقف الكلام المسموع بيننا، لينصرف كل منا إلى الصمت المعبر.
والشيء بالشيء يُذكر، ولكن هنا من باب التداعي وليس التماهي. فبعد أيام سيكون الاستفتاء- البدعة في سورية، وذلك لإعادة منح الثقة من الناحية الصورية إلى الرئيس الحاكم بأمر الزمرة، ليستمر في حكم البلاد دورة رئاسية سبعاوية جديدة، تكون مدخلاً لتأبيد إلزامي متسلط، هذا إذا سارت الأمور على المنوال الذي تريده لها جماعة النظام.


لقد تفاءل الكثير من الناس قبل سبع سنوات بمجيء الرئيس الشاب، المثقف، المنفتح، المطلع على الحياة في الغرب...إلى آخر صفات القائمة التي أشرفت على ديباجتها وترويجها الأجهزة القمعية، وتلقفها الناس برغبة صادقة في الإعتقاد، وتحولت الرغبة مع الأيام إلى اعتقاد راسخ؛ وانتشرت اللجان لتصدق الوعود والعهود، وظن الجميع أن الربيع السوري قد بات على الأبواب. ولم يقتصر الإنتظار الوردي لإنجازات الحاكم الشاب المأمولة على السوريين وحدهم، بل امتدت إلى الأوربيين وغيرهم. وأذكر انني كنت أثناء الاستفتاء الأول في اليونان، ذلك الاستفتاء الذي تم بعد أن قام عبدالقادر قدروة - رئيس مجلس الشعب في ذلك الحين- بناء على أوامر رؤسائه بتلوية عنق مجلس الشعب السوري، وغيّر في نص quot;الدستورquot; الذي كان الأسد الأب قد فصّله على مقاسه، ليغدو بفعلة قدورة مطابقاً لمواصفات الأسد الابن وليس غيره. كنت في أثناء استفتاء- الفضيحة المشار إليه في اليونان كما أسلفت، وهناك التقيت بالكثير من أبناء الجالية السورية، إلى جانب العديد من الأوربيين وغيرهم من مختلف الجنسيات. وما كان اللافت في الأمر هو ان القسم الأكبر كان يعقد الآمال على ما كانوا يعتقدون انه تحول في سورية. وأذكر انني حينما شرحت الموقف لأحدهم قائلاً: المشكلة التي نواجهها في سورية تتشخص أبعادها على الوجه التالي: في السابق كنا أمام رئيس سيطر على الحكم بقوة السلاح؛ وأغدق على البطانة المهام والمزايا، فكان هو بمفرده المصدر المطلق للتشريع، والتنفيذ، والقضاء، والإلهام. وأذكر أنني استعنت في هذا السياق بما ذهب إليه أحد الأشخاص ممن ترتسم معالم عامودا - في ذهني- عبر تقاطع قسمات وجوههم، وملامح مواقفهم. فقد كان هذا الرجل النبيه يلخص الموقف بدعابة سوداوية، تنم عن الذكاء والقدرة البليغة على قراءة الموقف وأبعاده. كان يقول لنا: علينا أن نقبل بكل ما يمنّ به هذا النظام علينا. فالرجل - ويعني به الأسد الأب- قد حمل دمه على كفه، وتمكن من الحكم بقوة العسكر من أصحابه، لاقوة أصواتنا الانتخابية، لذلك فمن حقه أن يستمتتع بما حصّله؛ وعلينا أن نفرح بالفتات المقدّم. لكن الرجل النبيه نفسه لم يلتزم بما كان يدعو إليه في الظاهر، ويمقته في الواقع. لذلك فضّل الإنتحار الذي ما زال لغزاً يؤرق الضمائر الباقية، ويعذبها، خاصة إذا وضعنا في حسباننا أنه كان قد تجاوز السبعين.


وفيما كنت انتقل إلى الجانب الآخر من المشكلة، الخاص بمرحلة الأسد الإبن الذي سيكون حصيلة تلاق بين إرادات مراكز قوى متعارضة، متنافرة. وحصيلة كهذه ستكون عطالة صفرية، مرغمة على التزام المسارات والمعادلات التي مكّنتها من البروز، وتتيح لها الاستمرار؛ حينما كنت اتناول هذا الجانب بمناسبة الاستفتاء الأول، كنت أشعر بأن مستمعي من السوريين وغيرهم لا يحبذون فكرة الوصول إلى النتائج السوداوية التي كان يوحي بها تحليلي. وذلك لتعارضها مع تمنياتهم وتطلعاتهم الزهرية. المفعمة بكل ما هو رومانسي جميل ومرغوب، حتى ولو كان هلامياً.

إن المستجد بالنسبة إلى الاستفتاء الثاني في عهد الأسد الثاني هو أن المعطيات قد تغيّرت، وذلك سواء في الواقع السوري أو الإقليمي أو الدولي، هذا إذا قارناها بما كانت عليه أثناء الاستفتاء الأول. فرئيس الاستفتاء الثاني لم يعد ذلك الضعيف المجبر على مراضاة أركان سلطته، كما كان الحال في عهده الأول. بل بات بفعل عوامل التقادم، والقدر، والإبعاد، والتغييب، الرقم الأساس في السلطة المعنية.


كما ان الأوضاع الاقليمية قد شهدت تحولات جذرية متسارعة، تمثلت بصورة رئيسة في غياب النظام الصدامي، وتحول العراق إلى ساحة مفتوحة أمام إرادات متعارضة إلى حد التناقض؛ وتنامي رغبة النظام الإيراني الجامحة في استغلال الموقف، بغية التنصل من الاستحقاقات الداخلية، والمصادرة على احتمالية المتغيرات الاقليمية التي من شأنها تهديد المشاريع التوسعية للنظام المعني. وما نلتمسه من جهود ايرانية واضحة المعالم اقليمياً، تتجسد بصورة خاصة في الحالتين اللبنانية والفلسطينية. ففي لبنان تسير الأمور نحو التصادم، نتيجة التقدم في موضوع المحكمة التي يخشاها أعضاء الزمرة الحاكمة في سورية خشية الجن من الحديد كما يقال. هذا في حين أن الأوضاع قد بلغت مرحلة الانفجار في فلسطين، وذلك في إطار مخطط ايراني-سوري يرمي إلى بلبلة المنطقة بأسرها، حفاظاً على استمرارية السلطة. ومن الملاحظ أن ايران باتت هي الطرف الراعي والممول للمخطط المعني. في حين أن الطرف السوري بات الملتزم الباحث عن قشة الخلاص. هذا في حين أن الأمور كانت في زمن الأسد الأب على النقيض تماماً. فقد كان الأخير هو العامل الفاعل في المعادلة السورية - الإيرانية، وذلك بتأثير العامل الدولي، وماهية المسائل الاقليمية؛ هذا إلى جانب الحنكة السياسية التي تمتع بها من دون شك. ولكن ما يتصل بالإبن، فالصورة متباينة إلى حدٍ كبير. فهو يفتقر إلى خبرة الأب، لكنه يتظاهر بها، ويحاول بكل الوسائل إثبات مؤهلاته، وغالباً ما يكون ذلك بوجب آلية إلغاء الخصوم فيزيائياً.


من جهة أخرى، يلاحظ ان توجه السلطة السورية نحو تبني الورقة الإسلامية عموماً، ودغدغة النزعات الطائفية هنا وهناك، قد سلباها بواعث الثقل الريادي التي أصبحت في الجانب الإيراني، لتزداد هناك ثقلاً بفضل المال المتراكم نتيجة الإرتفاع الحاد في أسعار النفط؛ وتشابك المصالح الإقتصادية، خاصة مع اوربا وروسيا والصين؛ في حين أن جسور الرعاية الأوربية التقليدية التي كان النظام السوري يحظى بها باستمرار، قد احترقت في عهد الأسد الابن، وذلك بعد أن وصل دوي انفجارات عملية اغتيال الرئيس الحريري إلى مسامع القاطنين في الأليزيه.


السوريون هم على موعد بعد أيام مع استفتاء يعرف الجميع بنتيجته، لذلك فضلوا المقاطعة واللامبالاة. إلا أنه مع ذلك سيخرج علينا وزير الداخلية بعد الاستفتاء - وربما قبله- ليعلن أن نسبة التصويت كانت قياسية، والأمر ذاته بالنسبة إلى نسبة الموافقين. وذلك تماماً مثلما فعل بالأمس القريب رفيقه الدوري مع رئيسه المعدوم.


تُرى متى سنتعظ من التاريخ؟ ونرتقي إلى مصاف الأنظمة السياسية التي تحترم في مواطنيها - لا رعاياها- إنسانيتهم قبل أي شيء آخر.

د. عبدالباسط سيدا