ـ مقاربة ثالثة ـ
نوهنا في البداية أن السلطة بدأت تمارس فعلها اليومي بالإقصاء التدريجي لنويات مجتمع سوري بدأ يتشكل مع وجود الاستعمار الفرنسي في المدن السورية العريقة بنشاطاتها التجارية والصناعية ـ بالمعنى النسبي للمفردة ـ كحلب ودمشق وللعلم فقط فإن في حلب وحدها كان يصدر فيها في نهاية الخمسينيات من القرن المنصرم أكثر من 32 جريدة ومجلة. وهذا يؤكد توق الجموع البشرية فيها إلى حالة من الوعي والتحضر. وكان فيها قواعد لكافة الأحزاب السياسية في تلك الفترة من شيوعيين وبعث وأخوان مسلمين وقوميين سوريين إضافة إلى تواجد الحزبين التقليديين حزب الشعب وحزب الكتلة الوطنية. فإذا كان الوضع في حلب كذلك فإن دمشق كانت تغلي في الحراك السياسي. ولكن في تاريخ سورية الفرنسي بعد دخول فرنسا حدث إلتواءين خطيرين تركا بصمتهما على تاريخ سورية ويبدو أن هذه البصمة لن تتغير بسهولة:
الإلتواء الأول ـ تشكيل الجيش السوري تحت عنوان ( جيش المشرق ) وقوات الدرك في سورية من أبناء الأقليات في سورية بشكل أساسي. وهذا نتاج لسياسة فرنسية مقصودة من جهة ولها أس موضوعي تتعلق بتاريخية الوضع الأقلياتي في سورية أبان الاحتلال العثماني ومن جهة أخرى وهذا هو الأهم برأيي أن الفقر والتهميش التاريخي الذي كان يعيش فيه الريف السوري عموما وليس الأمر مقتصرا على الريف المتواجد به الأقليات فقط بل كل الريف حوران وريف الجزيرة السورية من كرد وعرب. جعل من دخول الجيش الفرنسي فرصة للعيش بكرامة وبدون عوز.
الإلتواء الثاني ـ كانت النخب المدينية بكل أطيافها لا تفكر بشكل طائفي ولهذا جاءت قضية الصراع العربي الإسرائيلي لتلهب المخيلة النخبوية المدينية وبدأت سورية الحالية تتحول بشكل تدريجي إلى وجود انتقالي همه الصراع مع العدو الإسرائيلي ومن ثم وحدة الأمة العربية وهذا ماجاء على أساسه عبد الناصر ثم لا ننكر هنا أن الأقليات في سورية قد انخرطت جديا في المشاريع الحزبية القومية. في بحثها عن غطاء أكبر لوجودها وهذا الأمر له بحثه في سياق لاحق.
وبذلك نستطيع القول أن النخب السياسية العالمة قد تكونت في المدن السورية في المسجد من جهة وفي ثقافة الغرب من جهة أخرى ( نخب حزب الشعب والكتلة الوطنية وحتى نخب البعث ) وقابلها نخب ريفية عسكرية من ضباط وخلافه التي تطورت داخل الجيش لتصبح هي الفاعل في الكتلة النخبوية السورية وحتى المديني منها ( فالضباط هم من فرضوا الوحدة مع مصر ) وبدأت المعركة داخل هذه النخب تارة عبر انقلابات عسكرية وتارة عبر انتخابات تقطع عبر انقلابات عسكرية أيضا. ولم يكن المجتمع المديني قد نضج بعد لكي ينشئ تنظيماته المدنية التي تقف في وجه أية سلطة ديكتاتورية عند اللزوم. كما أن هنالك ميل عام لدى أبناء المدن لعدم الانخراط في الجيش وهذا يعود سببه إلى عوامل كثيرة ولكن أهمها أنها كانت مهنة غير تجارية. حتى لو عدنا مثلا لنهاية الخمسينيات من القرن العشرين لوجدنا أن غالبية ضباط الجيش وقادته باتوا من الريف السوري من جهة وداخل هذه الغالبية هنالك غالبية من أبناء الأقليات التي تكرس وجودها في الجيش عبر جيش الشرق الفرنسي. وبدأت مع بداية الستينيات لعبة تصفيات داخل هذه الحلقة حتى استتب الأمر لضباط الطائفة العلوية لأنهم بالأساس كانوا الأكثرية داخل الجيش. وكل هذه التصفيات معروفة وقد كتب عنها الكثير. ولم يعد المجتمع السوري الحديث له دورا يذكر في مثل هذه الصراعات الفوقية والتي كانت أصلا تتم بناء على تعويم حالة التخلف في المجتمع وليس العكس. مما خلق جوا شعاراتيا برانيا لاعلاقة له بطبيعة الصراع على السلطة الذي كان يتم خلسة بين العسكر. والمثال ما أسماه البعث ثورة آذار وهي التي تمت بانقلاب أبيض ولم يكن الشعب السوري يعرف عنها شيئا. في محصلة الموضوع فإن المجتمع السوري مثله مثل بقية مجتمعات الأرض ولكن الذي حدث هو بعنوان عريض يحدد أن العسكر حولوا المجتمع السوري إلى مجتمعا انتقاليا ارتجاليا:
مجيئ العسكر إلى السلطة وهم من بدأوا بتحريك المسألة الطائفية من خلال صراعهم الداخلي على السلطة وداخل السلطة حتى تحولت هذه السلطة إلى بؤرة مولدة للتطييف الاجتماعي والسياسي والثقافي مما شكل عائقا رئيسيا ولازال في وجه نمو مجتمع مدني كانت قد بدأت نوياته بالتقدم وقطعوا عليها طريق التطور الطبيعي لأن السلطة باتت مولدا لكل تطور استثنائي والإستثناء هنا هو في قسم المجتمع جهويا وتحويل اهتماماته نحو أفق يمر بالضرورة عبر بوابة السلطة التي بيدها مقاليد توزيع الثروة الاجتماعية ومقاليد القوة. وعلى هذا الأساس أعادت ضخ القيم الماقبل مدنية بشكل شفاهي وحقيقي وفعال حتى وصل الأمر في سورية إلى أن هذه البؤرة المولدة للعصبيات قد تحولت إلى حائط مسدود أمام تقدم السلطة نفسها في تجديد بناها. ودخل المجتمع السوري وسلطته المطلقة في بؤرة إعادة إنتاج العصبيات المتخلفة. وما نشهده من نمو بطيئ في تقدم وعي مدني إنما هو نتاج طبيعي للتلاقح مع روح العصر ليس أكثر وهذا التلاقح هو ما تعمل عليه السلطة دوما من أجل أن يمر عبر بوابتها هي وليس بشكل مستقل لذا من الصعب الحديث عن نويات مجتمع مدني مستقلة! وإلا لماذا أنور البني وعارف دليلة وميشيل كيلو واللبواني وعيسى في السجن؟
لهذا بعد أكثر من أربعة عقود على وجود هذه البؤرة المولدة للعنف والجهويات والعداء للخارج رفضا لتلاقح المجتمع السوري مع روح العصر! نجد هنالك من يعود ليحمل تخلف المجتمع السوري مسؤوليته ومسؤولية ثقافته فيما يجري فيه بينما الأمر الواضح والأكيد بأن هذا المجتمع قد سحبت منه كل ثقافته عبر هذه العقود لتحل محلها الثقافة التي ولدتها هذه السلطة نفسها وهي ثقافة لقيطة ما بين المكتوب قوميا والشفاهي طائفيا! وهي من تتحمل كامل المسؤولية في وصول المجتمع السوري لكي يكون مجتمعا قابلا للانفجار الطائفي. وقبل أن نختم هذا القسم نقول أن التوسع العرضي في التعليم في فترة السبعينيات والثمانينيات والمترافق مع ثقافة سلطوية جعل كل هذا التعليم والذي هو تعيلم قطاع سلطة وليس قطاع عام أو قطاع خاص مولدا لآليات الالتحاق بالسلطة وبثقافتها وليس الالتحاق باحتياجات المجتمع وما يريده من أجل أن يكون جزءا من روح هذا العصر. السلطة أولا والآن هي كل المجتمع! ومثال صدام واضح عندما انهارت السلطة لم نجد هنالك بين العراقيين من يدافع عن الدولة العراقية!
وهذا ما سنتركه للمقاربة التالية.
غسان المفلح
التعليقات