(1)

لفهم مايجري في سورية لابد من الرجوع قليلاً إلى الوراء إلى معالم النظام الذي بناه حافظ أسد واستقر عليه لعشرات السنين، وفي مجتمع مثل المجتمع السوري حديث الإستقلال ولاتحدده موضوعياً مفاهيم ومقاييس دولة بالمعنى الحقوقي ولامعايير شخصية واضحة تتعلق بهوية وطنية معينة، بقدر ماكان جزءاً من كل وبمعالم قومية واضحة، وجد نفسه بعد الإستقلال محدداً بواقع جغرافي وإداري فرضته القوى الإستعمارية (سايكس - بيكو ) تحديداً، وعليه شهدت سورية في مرحلة مابعد الإستقلال نمطاً من البنية الإنتقالية نحو تشكل اجتماعي جديد محمولاً على واقع سياسي اقتصادي اجتماعي أفرزه وجود الإستعمار، واستمرت الحركات السياسية كلها تتفاعل وتعمل بوحي هذا الواقع وبحرية وديموقراطية نسبية مع بعضها ومع حاجة المجتمع المستقل حديثاً، وأنتج هذا الوضع حياة سياسية شبه برلمانية تعتبر البداية الصحيحة نحو استكمال ملامح بناء الدولة السورية.

ومابين الإستقلال في نيسان 1945 ومجيء البعث إلى السلطة في ثورة آذار 1963، شهدت سورية أكثر من عشرين انقلاباً عسكرياً،أي بمعدل انقلاب كل سنة مما طبع الحياة السياسية والإجتماعية في سورية بعدم الإستقرار، وكانت تلك المرحلة تتصف بحالة غليان وصراع للسيطرة على السلطة وليس تثبيت معالم الدولة الجديدة، وبمجي ء ثورة آذار 1963 فجاةً اتخذت الأمور منحاً آخراً مختلفاً تماماً عما سبقه، ونعني أن المجتمع السوري انتقل فجأة من حياة شبه ديموقراطية برلمانية إلى المركزية الشديدة وسيطر النظام الجديد بالقوة وبquot;الشرعية الثورية quot; على كل شاردة وواردة في حياة الناس، وأسوأ عمل قام به هو إلغاء وجود القوى الإقتصادية الإنتاجية في الزراعة والصناعة،وأقدم على عمليات الإستيلاء على القطاع المحرك للدولة وعلاقاته وهو القطاع الخاص بفروعه الصناعي والزراعي والتجاري، تلك الخطوة سيكون لها أثرها الكبير على تطور العلاقات الوطنية بين أفراد الشعب، وعلى تحديد شكل النظام (الدولة ) في المستقبل، وعلى رسم صورة (الدولة) الجديدة والتي غابت كلياً عن الوجود إلى الأن.

هذا الإنتقال السريع من مرحلة تكون سياسي واجتماعي واقتصادي لم يأخذ مداه الزمني المطلوب ليتطور موضوعياً إلى حالة شبه مستقرة اقتصادياً مؤسساتياً وقانونياً على مستوى المجتمع، أي أسهمت ثورة آذار في نقل المجتمع ارتدادياً من مرحلة التفاعلات الموضوعية الواقعية لإنتاج صورته ومحدداته العامة إلى مرحلة أخرى متخلفة غلبت عليها الشعارات الطوباويه وحصرت المجتمع في خيارات وهمية وعلاقات أهلية، حيث طغت ثقافة محرضة فارغة إقصائية لفظية خالية من أي محتوى اقتصادي إنتاجي إصلاحي مؤسسي،ولاتملك رؤية واضحة لبناء دولة،ومع موعد استلام السلطة السريع والمفاجئ، وفي ظروف البعث تلك حيث البني الفكرية والفلسفية والقانونية للسلطة بأبعادها العامة لم تختمر بعد، وبدل السير في البحث عن أسس صحيحة لبناء الدولة، تمسكت السلطة الجديدة بهدف استمرار السلطة أملاً على تنفيذ برنامجها الضخم في وحدة الأمة العربية وحريتها وبناء العدالة الإجتماعية، وهي كانت بمجموعها أحلام جميلة حولها حافظ أسد إلى أوهام وكوابيس مخيفة، وارتدت إلى السلطة الفردية وعاشت سورية مرحلة خطيرة من عدم الإستقرار حتى عام 1970، حيث استطاع حافظ أسد بقسوة رهيبة تصفية بعثه وكل معارضية،وانفرد بالسلطة وورث غطاءها الكبير الفضفاض (البعث) الذي وفر له الأرضية الفكرية والسياسية والإجتماعية لبناء دولة الشرطة السرية.

وعليه يصبح من العبث والتسطيح وتضليل الرأي العام الحديث عن دولة! فما بالنا الحديث عن دولة وطنية؟! وفي نظام سياسي فردي أحادي الفكر والتفكير ولايقبل بوجود الآخر كائناً من كان،سوى تابعاً له ومنفذاً لأمره ومشتركاً معه في الظلم والفساد، وبشكل أكثر مباشرة نسأل ماهي محددات الدولة وأين هي؟!، وكل الشعب السوري مجرد من الحقوق، ومئات الآلاف من العرب والكرد مجردين من حق المواطنة، من الجنسية؟! ماشكل هذه الدولة الغريبة في سورية؟!ماهي أسسها ومتطلباتها وعلاقاتها وروابطها وصفاتها؟! وأين هي الدولة في واقع سورية؟! لعل الحديث عن الدولة الوطنية في سورية هو وهماً آخر، وأكثر من ذلك هو حولاً فكرياً وحقوقياً، إذ من بديهيات الدولة الوطنية هو وجود روابط اجتماعية واقتصادية وعلاقات إنتاج وتبادل مصالح وتوزيع شبه عادل للثروة وتكافؤ الفرص بين مجموعة البشر المشتركة جغرافياً وتاريخياً في العيش معاً على قطعة من الأرض وامتداد معين من التاريخ، وبناء شبكة مشتركة بين محموعة من البشر يحفظها القانون المعبر عنه بوجود مؤسسي يحافظ على احترام الفرد والكرامة الإنسانية بحدها الأدنى لكي تسمى رابطة وطنية، لعل الخلط بين الجانب السياسي والحقوقي نظرياً هو المشكلة في مقاربة الكثيرين القاصرة حول مفهوم الدولة، وأكثر مصيبة عندما تلحق بلاغياً فيها كلمة الوطنية، لانبالغ بأن الوصف الوحيد الصادق لصورة سورية الراهنة هو النظام الأمني الذي بناه الراحل حافظ أسد وورثه الإبن بشار أسد وهو غارق في مفارقة (الدولة )و(العصابة )...وبشكل أكثر مباشرة عمال بناء الدولة معروفين تاريخياً، ومصيبة سورية أن الذي خطط لبنائها الحديث هم مجموعة ( رثة ) اجتماعياً واقتصادياً وسياسياً وقانونياً،ليس بمعنى القيمة ولكن بمعنى النوعية،وهذا هو ماحدد نوعية النظام ( الدولة ) المارقة، وكلمة الدولة هنا هي دلالية رمزية أكثر منها وجوداً واقعياً....يتبع!.

د. نصر حسن