المذهب الثالث (الوجه والكفان)

أولا: استعراض الروايات ومناقشتها.
الرواية الا ولى: (حدّثنا شبابة بن سوار، قال: حدّثنا هشام بن الغاز، قال: حدّثنا نافع، قال ابن عمر: ا لزينة الظاهرة: الوجه والكفان). وهو اجتهاد من أبن عمر، وليس رواية عن رسول الله كي نقول إنه تشريع. ثم يتعارض مع الرأي الذي يذهب إن الزينة هي الثياب.
الرواية الثانية: (حدّثنا زياد بن الربيع، عن صالح الدهان ،عن جابر بن زيد، عن إبن عباس، قال: الكف ورُقعة الوج). ويمكنني أن أعلق على هذه الرواية بما يلي:
لقد سبق وأن قرأنا روايات تنسب لابن عباس رأيا آخر، فقد كان يقول إن الزينة الظاهرة هي (الكحل والخاتم)، وهناك من يرى إمكانية الجمع بين الروايتين، فإن الأصل هو (الوجه والكفان)، والقول بأنها (الكحل والخاتم) إنما من فنون التعبير بالحال فيما القصد المحل. أي ليس المقصود هو الكحل بل الوجه، وليس المقصود الخاتم بل الكف. قد يبدو أن هذا الجمع جميل وغني، فيما هو بارد وتعسفي ويسبب الكثير من المشاكل. فإن الكحل لا يشكل تعبيرا معادلا للوجه، بل لا يتعدى العينين على أحسن تقدير، كذلك الخاتم لا يشكل تعبيرا معادلا للكف. فمن الصعب مد دلالة الكحل إلى كل الوجه، كذلك بالنسبة للخاتم والكف، لو كان الكحل يغطي مساحة عريضة من الوجه فقد يكون هناك مبررا لمثل هذا التأويل، ولكن والكحل يحتل مساحة ضئيلة جدا من الوجه الأهداب فقط، فمن الصعب أن يغطي بدلالتة الخدين والجبهة والذقن والوجنتين والشفتين فضلا عن العينين بالذات، حتى لو قلنا بمنطق الدلالة الالتزامية، فإن دلالة الخاتم بالالتزام لا تتعدى الأصبع وليس بالضرورة الكف كلها. ثم ملاحظة أخرى، أن دلالة الزينة لغويا على الكحل أبلغ من دلالتها على الوجه، بل هناك نقاش حول صحة حمل الزينة على الخلْقة! وبهذا من المعقول أن يكون المقصود هو الكحل بحد ذاته، وليس الوجه، باعتبار إن الاستعمال اللغوي للزينة يدل على الكحل من دون نقاش، بينا دلالته على الوجه خاضع لنقاش معقد وطويل. الكحل يزيِّن ا لوجه، ولكن الوجه يزيِّن أي شي يا ترى؟ ولا زينة بلا تزيين، بل جوهر الزينة هو التزيين، ولست أدري أي شي يزيّن الوجه؟ هل يزين المرأة نفسها؟ كلام في كثير من العسف والتحميل والإيغال، وسوف نعود لمناقشة هذه النقطة بالذات.
الرواية الثالثة: (أبو حاتم في تفسيره: ثنا الأشنج، ثنا ابن نمير، عن الاعمش، عن سعيد بن جبير، عن ا بن عباس: ولا يبدين زينتهن إلاّ ما ظهر منها. قال: وجهها وكفاها والخاتم) / التفسير 44 / 432.
يغيب في الرواية الكحل، فهل لا يجوز إبداؤه ياترى؟إذن أين نضع رواية ابن عباس السابقة التي تؤكد على أن الكحل من مصاديق الزينة؟ ولكن هنا نلاحظ ما يلي:ـ
1: إن عطف (الخاتم) على(الكف) ربما يفيد عدم دلالة الخاتم على الكف، وإلاّ كان بالامكان أن يقول (وجهها والخاتم)، أي يتكلم بالحال ويريد المحل. وليس من شك، إنّ قولنا بدلالة الحال على المحل لا يتطلب بالضرورة تلبس الحال بالمحل فعلا ، فإنت عندما تقول لصاحبك مثلا: يجوز لك ان تنظر لخاتم المرأة، وتريد بذلك جواز النظر الى كفها، إنما تسري الدلالة حتى لو لم تتختم المرأة أصلا.
2: ربما يقولون: أن المُستثنى هنا هو ثلاثة أمور، هي الوجه، والكف العارية، والكف المُختَّمة، وإن قوله: والخاتم يشير إلى الكف المختَّمة. والكلام الاخير فيه تحميل كما مر بنا قبل قليل.
3: يتبرع الكثيرون بالجمع بين هذه الروايات التي تنسب لإبن عباس، حيث يتجهون للقول أن الزينة المستثاة هنا هي: الوجه والكفان والكحل والخاتم، كل على حدة، وهو جمع عرفي عادي بسيط لا يحتاج إلى جهد وفكر. ولكن هل من حقنا أن نسال: ترى كيف يجيز ابن عباس لنفسه هذه التجزئة في الحكم الشرعي؟ وما ذنب المسلم الذي سمع من ابن عباس بالكحل والخاتم ولم يسمع منه الوجه والكفان؟ هذه مغالطات مفضوحة، قد لجا إليها بعض الفقهاء عجزا عن حل تعدد المواقف والأراء والتصورات في الكثير من قضايا التشريع، خاصة إذا ترددت بين اكثر وأقل.
تتضارب هذه الروايات مع رواية معتبرة بل صحيحة عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، ففي البخاري

ثانيا: تفكيك العلاقة بين الحال والمحل
يدافع أصحاب هذا الرأي كما لاحظنا فيما لو أعترض عليهم بروايات الكحل والخاتم وغيرهما من الزينة التي يسمونها عارضة بأن المرا د في الاصل المحل وليس الحال، أي المقصود الوجه وليس الكحل وهكذا مع بقية الأمور ذات العلاقة بالقرطة والسّوار مثلا، ولكن هنا أسجل النقاط التالية.
1: أن العلاقة بين الحال والمحل هنا ليست ضرورية، وليست عالمية، وليست موجودة ومشهودة على مستوى الحتم في كل المجتمعات والأمم، وفي كل الأزمنة، وربما هذا أسلوب في لغة العرب غير موجود في لغة غيرهم، وبالتالي، التعبير بالحال بقصد المحل يختزن الكثير من اللبس.
2:إذا كان الأمر كذلك فما الذي يمنع النص القرآني أن يصرح بذلك علنا؟ حقا أن هذه النقطة مثيرة، وجديرة بالتأمل. لقد ذهب بعضهم أن قوله تعالى (ولا يضربن بأرجلهن ليُعلم ما يخفين من زينتهن) إنما يقصد الساقين وليس الخلخالين! فإن الشرع الديني منعهن من الضرب بالارجل ليس لمنعهن من جذب الانظار الى الخلخال فيرى، بل إلمقصود هنا المنع من إبداء أو إظهار الساق، أي أشار الى الخلخال والمراد الساق، ولكن ما المانع أن يتوجه ربنا إلى الحرام مباشرة ويكشف لنا عنه من دون تحمل هذا العناء لاستخلاص النتيجة؟

ثالثا: ألزينة والخلْقة الإنسانية
اقصد بالخلقة كوجه المرأة وكفيها كما يمثلون لزينتها، حيث هناك حوار حول مدى صحّة إستعمال مادة (ز. ي. ن) اللغوية في هذه المصاديق، بل ربما السؤال يمتد إلى ذات الإنسان، لقد أطلق القران الكريم على مجموعة من الكونيات بـ (ا لزينة)، وأوعز لها عملية تزيين، أي وظيفة تحسين، كما هو الحال في النجوم والكواكب، فقد قال تعالى (وزيّنا السماء الدنيا بمصابيح)، فبما أن المصابيح تزيِّن السماء فهي إذن زينة. كذلك سمى العشب زينة، وفي القرآن نقرأ أيضا قوله تعالى (والخيل والبغال والحمير لتركبوها وزينة) أي تقوم بوظيفة التزيين، أو تُستثمر للتزيين، وهذه الزينة وإن كان موضوعها الذي تلبست به هي السماء والارض ، ولكن الغاية البعيدة هي تزيين الوجود والحياة للأنسان، أي لجعل الوجود جميلا في نفس الانسان، سواء كان رجلا أم إمرأة، أي إ نسان، وإلاّ أي حصيلة تنعكس على تزيين السماء بالنسبة للسماء نفسها وهي لا تعي ولا تدرك؟
الزينة تتطلب شيئا تزينه، دورها وظيفي خارج مملكتها، فليس هناك أي معنى أن نقول مثلا أن النجوم تزيِّن نفسها، أو هي زينها لنفسها، وبالتالي، لو كان (وجه) المرأة زينة، فأي شي يزيّنه هذا الوجه الأنثوي؟ هل يزيِّن نفسه فيما نفسه زينة؟ أم يزيِّن المرأة كجسم أو كائن فيما الوجه هو جزء من هذا الكائن وليس عارضا عليه ؟ أم يزيِّن ا لحياة لآخر؟ ولكن من هو المقابل؟ الرجل؟ مسألة فيها نظر، وقد تحمل بعض القسوة في حق هذا المخلوق الجميل، ويجب أن نفرق بين الزينة و الجمال، فالجمال شي قائم في نفسه، لا يملك وظيفة تجميل الآخر، تجميل شي خارج عن حريمه الشخصي أو الموضوعي، فيما الزينة يجب أن تمارس وظيفتها التي هي التزيين، وتزيِّن شيئا من خارجها وليس داخلها.
ثم من مؤديات القول بأن الوجه زينة، يعني إمضاء الله له بأنه زينة، ولكن لابد من ملاك لهذا الإمضاء، لأن المسالة ليست مسالة اصطلاح، بل لابد من سبب، فما السبب في هذا الإمضاء؟ هل لأن الوجه أبرز ما يتصدر الكائن الانساني؟ أم لأن الوجه زين على كل حال؟ أم لأنه العضو الذي يكشف عن جمال الجسد الانثوي؟ كل هذه الاحتمالات ليست على مستوى من القوة بحيث تبدو مقبولة، وماذا نقول عن الوجوه البشعة، وقد كان العرب ينفرون من ذوات الوجوه البشعة، ويطلقون عليهن أسماء منفرة، فأين هنا ملاك الزينة؟
لا أعتقد أن هذا الاستعمال متوفر على الشواهد القوية، وهو كما يبدو لي استعمال متأخر وليس استعمالا متقدما.
ملاحظة غير ختامية
هذه اهم الاراء والمذاهب المطروحة، وكما نرى أي منها يعاني من الكثير من الثغرات والنواقص! وهي من دلالات الازمة الفكرية بالنسبة للمجتمع المسلم. على أنها حقيقة صارخة أن القران أهمل الاشارة الصريحة إلى كلا الزينتين، الظاهرة والخفية، وحقيقة صارخة أن أي أثر نبوي يمكن الاطمئنان إليه مفقود على الصعيد ذاته، فهل هناك حكمة من وراء كل ذلك؟
يتبع