المذهب الثاني (الكحل والخاتم)
أولاً:مقدمة
أعتادت المرأة في العصر الجاهلي أن تتزيَّن بأنواع من الزينة، والتزيين هو في واقعه تحسين لشي بحيث يخلق ميلا من قبل النفس نحوه، هذا ما كشف عنه الطبرسي في تفسيره الكبير، ولم تكن هناك آلية واحدة أو مادة واحدة للتزيين في العصر الجاهلي، ونحن نقرا من ذلك الخاتم والكحل والخضاب والسّوار والخلخال والقرطة والفتخ والقلادة والدملج، وغيرها كثير.الخاتم معروف وشائع، كذلك الخضاب، وكان نساء الجاهلية يخضبن حتى نصف الذراع، وبالمثل السّوار وهو طوق يضرب على الساعد أو المعصم، أما القرطة فموضعها الأذن كما هو منتشر اليوم في العالم العربي وا لا سلامي بل واحيانا حتى في الغرب، ونلاحظ إنتشارها حتى بين الفتيان، أما الفتخة فهي مثل الخاتم يكون في اليد أو الرجل وكانت نساء الجاهلية يتخذهن في عشْرهِن، والقلادة أمرها معروف، طوق من مادة في أكثر الاحيان تكون ثمينة تضرب على عنق الفتاة، وقد تكون لاصقة أو متدلية حتى تحتل مساحة لا بأس بها من الصدر، والدملج طوق يضرب على العضد، والخلخال طوق يحيط ببداية لساق من جهة القدم فما فوق. هذه الزينات اجتهد بعضهم بتقسيمها إلى ظاهرة وخفية، وتشعب الحكم حسب اجتهاد المجتهد في تسميتها ظاهرة أو خفية، في حين يبدو إن ذلك خاضع للقيم السائدة والعادات المتحكمة بموضوع الزينة وموضعها من الجسد، وحالة الجسد نفسه في داخل المنظومة الثقافية للشعوب على مر العصور واختلاف الجذور القومية وتباين الظروف التي مرّت بها الامم.وليس من شك أن إطلاق الزينة على هذه المصاديق أولى من غيرها، لانها حقا كانت وما زالت مادة تزيين شائعة ومتحكمة، وأدخل عليها الذوق البشري الكثير من التطورات والتغييرات التي من شأنها تصعيد من دورها التزييني. ومن المفسرين والعلماء رفض أطلاق الزينة على الخلْقة كالوجه والعنق وغيرهما، وذهب إلى أنصرافها إلى غير الخلقة، وقد أجتهدوا في حصرها (في أمور ثلاثة (أحدها) الأصباع كالكحل والخضاب بالوسمة في جاجبها والغمزة في خديها، و الحناء في كفيها وقدميها (ثانيها) الحلي كالخاتم والسّوار والخلخال والدملج والقلادة والأكليل والوشاح والقرط (وثالثها) الثياب)/ تفسير الرازي 12 ص 206 /. أذكر كل هذا كمقدمة للولوج في قراءة الرأي الثاني في زينة المرأة في هذه الاية الكريمة.
ثانيا: استعراض الروايات
الرواية الأولى: (أخرج الطحاوي في شرح معاني الاخبار في جزء 4 ص 332، والبيهقي في السنن الكبرى جزء 7 ص 85، عن طريق أو بالاحرى من طريق مسلم الملان بن كيسان الأعور، عن سعيد بن جبير، عن أبن عباس: لا يبدين زينتهن إلاّ ما ظهر منها، قال: الكحل والخاتم).
الراوية ضعيفة بـ (مسلم بن ملان بن كيسان)، فقد ضعّفه الكثير من علماء الجرح والتعديل، منهم ابن حمّاد ويحي بن معين والساجي وغيرهم / الكامل في ضعفاء الرجال 6 رقم 1796 /.
الرواية الثانية: (أخرج البيهقي في سننه الكبرى جزء 2 ص 225، أخبرنا أبو طاهر الفقيه، انبأنا أبو بكر القطان، حدّثنا أبو الازهر، حدثنا روح بن عبادة، حدّثنا حاتم، أنبأنا خصيف، عن عكرمة، عن أبن عباس قوله: في قوله: ولا يبدين زينتهن إلاّ ما ظهر منها، قال: الكحل وا لخاتم). الرواية ضعيفة بـ (خصيف). فقد ضعّفه يحي بن معين، و ضعّفه شيخ بني عيينة، وآخرون / راجع الكامل في الضعفاء 3 رقم 619 /.وبالتالي، يكون القول المنسوب لإبن عباس ضعيف.
الراوية الثالثة: (أخرج بن أبي شيبة في مصنفه الجزء 3 / 546:حدّثنا وكيع،عن حمّاد بن سلمة،عن أم شيبة،عن عائشة قالت: القُلب والفتخة.)، والقُلب يعني السّوار مما يعني إننا نلتقي برأي جديد، لان السوار غير الخاتم كما هو معلوم، أما الفتخة فهي الخاتم يلبس في أصابع اليد أو الرجل، وقيل هي الخلخال الذي لا يجرس. ولسنا ندري هل هذا فقه عائشة رضي الله عنها أم هو منقول عن النبي الكريم صلى الله عليه وسلم.
الرواية الرابعة: ( أخرج البيهقي في السنن الكبرى الجزء 7 ص 85: أ خبرنا أبو طاهر الفقيه، أنبأنا أبو بكر القطان (ضعّفه السهمي)، أنبأنا أبو الأزهر (احمد بن الازهر بن منيع ثقة ولكن يخطي من غير كتابة)، ثنا رو ح، ثنا حماد، ثنا أم شبيب، قالت: سألت عائشة عن الزينة الظاهرة، فقالت: القُلب والفتخة. وضمّت طرف كُمِّها).
هذه الرواية أولا ضعيفة، ومن ثم لا تتماهي بشكل واضح وكامل مع رواية أم شبيب نفسها، أقصد الرواية السابقة، فقد روت أم شبيب عن عائشة ـ الرواية الثالثة ـ بأن الزينة الظاهرة هي القُلب والفتخة، ولكن من دون ضم طرف الكم، وهذه زيادة ذات شان، لان معناها أن الزينة الظاهرة هي المعصم وليس الخاتم!!!
وقال ابن حزم في المحلّى جزء 3 ص 22 ( وقد روينا عن ابن عباس في (ولا يبيدن زينتهن إلاّ ما ظهر منها) قال (الكف والخاتم والوجه)، وعن إبن عمر (الوجه والكفان)، وعن أنس (الكف والخاتم)، وكل هذا عنهم في غاية الصحة، وكذلك أيضا عن عائشة وغيرها من التابعين).وقد مضى مناقشة هذه الروايات، وما يصح عنده ليس شرطا في صحته أصلا.
ثالثا: نقطتان جوهريتان
تعقيبا على هذا السرد ينبغي أن أشير إلى نقطتين تتصلان بالسرد المذكور، وسوف نحتاج في التعامل مع الاية هاتين الملاحظتين في مواقع كثيرة.
النقطة الأولى: لم تكن زينة المرأة في العصر الجاهلي المتصل عن قرب بعصر النبوة مقتصرة على الكحل والحناء والوشم والقرطة والخلخال، بل هناك التزيين بطريقة الطلي، أي المساحيق التي توضع على الوجه، فقد جاء في المفصّل لجواد علي (وبالتجميل بالكحل وبالمساحيق التي توضع على الوجه والدهن الذي يدهن به الشعر...) المصدر 4ص 623 / فالمصدر هنا يذكر صراحة أن هناك عملية تزيين للوجه تتم بواسطة المساحيق، ولكن لم أر في الاثر الديني الذي يتناول موضوع الزينة إشارة إلى المساحيق هذه، بل هناك إشارات إلى الكحل والخضاب، وهما ليسا من وسائل تزيين الوجه كما هو معلوم.
النقطة الثانية: يرى كثير من العلماء والدارسين أن الإشارة إلى الخاتم والقرطة والسّوار وما شابه ليس مقصودا بحد ذاته، بل المقصود هو المحل وليس الحال، أي العضو الذي هو محل هذه الزينات، فـ (الراس موضع التاج، والوجه موضع الكحل، والعنق و الصدر موضعا القلادة، والأذن موضع القر ط، والعضد موضع الدملوج، والساعد موضع السّوار، والكف موضع الخاتم، والسّاق موضع الخلخال، والقدم موضع الخضاب...).
بناء على هذا التفسير يكون موضوع المستثنى هو العضو الذي هو المحل، وليس الكحل أو الخاتم بحد ذاته، الوجه والكف كما يقول اصحاب هذا الرأي.
وفي الحقيقة هذا التفسير يساهم في تعقيد المسألة ولا يتقدم بحلها، فإذا كان المقصود من الخاتم كزينة هو المحل، فإن المسموح به أو المستثنى لا يتعدى الأصبع، فكيف نمد هذا الحق إلى الكف مثلا ؟ وإذا كان المقصود من الكحل هو الحامل، أي العين، فإن المستثنى لا يعدو في هذه الحال العين، فما الداعي إذن لمد الدلالة إلى الوجه كله ؟
التعليقات