نمضي في تحليل آية الزينة في القرأن الكريم، أي قوله تعالى (لا يبدين زينتهن إلاّ ماظهر منها) بعد أن فرقنا بشكل دقيق بين الإبداء والظهور وقمنا بعملية نقد تفكيكي لمعاني المادة كما وردت في المعاجم العربية، وإن كان الاعتماد على هذه المعاجم من دون عناية لا يخلو من مخاطرة كما أوضحنا، لانها كتبت متأخرة. وفي الحلقات التالية نستعرض أراء ومواقف العلماء والفقهاء لنرى مدى جدية التماهي بين هذه الاراء والمواقف وما يتطلبه التحليل الدقيق للآية في ضوء الكثير من المقتربات التي سوف أشير إليها في الاثناء. وسوف يكون مرجعنا من السنة النبوية المدونات السنية، ثم نعطف عليها بالمدونات الشيعية في مناسبة أخرى إن شاء الله.
المذهب الأول (الثياب)
أوّلاً: استعراض الروايات
وقد جمعها ابن أبي شيبة في مصنفه المعروف، في الجزء الثالث صحفة 546، نستعرضها مع نقد رجالي سريع ,
الرواية الاولى: (حدّثنا وكيع (ثقة) عن سفيان (الثوري، ثبت) عن ابي أسحق (وهو عمرو بن عبد الله بن عبيد السبيعي: ثقة، أختلط، وقد سمع منه سفيان بن أبي عيينة بعد إختلاطه) عن أبي الأحوص (وهو عوف بن مالك بن نضلة الجشمي، صحابي) عن عبد الله: ولا يبدين زينتهن إلاّ ما ظهر منها، قال: الثياب). والرواية صحيحة لولا أن يكون سفيان الثوري قد سمع من أبي اسحق بعد إختلاطه).
الرواية الثانية: (حدّثنا خالد الاحمر (سليمان بن حيان، صدوق) عن حجاج (بن ارطأه الإعور: ضعيف مدلس) عن أبي إسحق عن أبي الاحوص،عن عبد الله قال: الزينة زينتان. زينة ظاهرة، وزينة باطنة لا يراها إلا ّ الزوج. وأمّأ الزينة الظاهرة فالثياب، وأما الزينة الباطنة فالكحل والسوار)، واخرجه كذلك الطبراني في معجمه الكبير (9 / 228). والرواية ضعيفة كما هو واضح من مقاييس علم الرجال السني.
الرواية الثالثة: (حدّثنا علي بن عبد العزيز، حدّثنا أبو نعيم (الفضل بين دكين الكوفي الملائئ، ثة ثبت) ثنا سفيان بن أبي اسحق، عن أبي الأحوص،عن عبد الله: ولا يبدين زينتهن إلاّ ما ظهر منها، قال: الزينة: الثياب). وسفيان سمع من الاحوص بعد اختلاطه ممّا يقلل من اعتبار الرواية.
الرواية الرابعة: (حدّثنا عبد الله بن محمد بن سعيد بن أبي مريم (ضعيف) ثنا الفريابي (ثقة)، عن إسرائيل (ثقة) عن أبي اسحق، عن أبي الاحوص، عن عبد الله: ولا يبدين زينتهّن إلاّ ما ظهر منها، قال: الزينة: القرط والدملج والخلخال والقلادة) والرواية ضعيفة فضلا عن أنها لم تشر الى الزينة الظاهرة، وما ذكر يدخل في الزينة الباطنة حسب مذهب عبد الله بن مسعود في ضوء الروايات السابقة.
الرواية الخامسة: (حدّثنا محمّد بن علي الصائغ، ثنا سعيد بن منصور ثنا حديج بن معاوية (ضعيف) عن أبي اسحق، عن أبي الأحوص،عن عبد الله في قوله ولا يبدين زينتهن، قال: الزينة:السوار والدملج والخلخال والأدب والقرط والقلادة، وما ظهر منها: هي الثياب والجلباب) والرواية ضعيفة، وفيها زيادة، فقد أضيف الجلباب إلى الثياب، فيما في الروايات السابقة أكتفى بالثياب فقط.
الرواية السادسة: (حدّثنا سليمان قال: ثنا عبد الرحمن بن زياد قال ثنا زهير بن معاوية (ثقة، إلاّ أنه سمع من أبي الأحوص بعد اختلاطه) عن ابي اسحق، عن أبي الاحوص، عن عبد ا لله، ولا يبدين زينتهّن إلا ما ظهر منها، قال: الزينة: القرط والقلادة والسّوار والخلخال والدملوج، ما ظهر منها الثياب والجلباب). الطحاوي في شرح معاني الاخبار 4 / 332. والرواية ضعيفة بسماع زهير بن معاوية من أبي الاحوص بعد اختلاطه.
ثانيا: مناقشة الروايات
1: هذه الروايات عن عبد الله بن مسعود تكشف عن رأي لهذا الصحابي مفاده أن الزينة الظاهرة هي (الثياب)، والثياب في الواقع وكما هو نظام اللباس الإسلامي بالنسبة للمرأة ليست ظاهرة، لأن الأصل في هذا النظام أختفاء الثياب تحت الجلباب، فالجلباب يغطي الثياب كما يقولون. ومن خلال المعطيات المتوفرة يكون لباس المرأة المحجَّبة في الاسلام يتكون من مستويين على أقل تقدير، الأول هو الثياب والثاني هو الجلباب ،. فالثياب غير الجلباب كما هو واضح في اللغة ومن سياق االرواية السادسة والرواية الخامسة، وسواء كانت الروايتان صحيحتين أم لا، فذلك ليس له علاقة بصحة الإستعمال اللغوي لكلمتي الثوب والجلباب. ويقرّب الشيخ ناصر الالباني الجلباب بما يعرف اليوم بـ (الملاءة)، وهي الشادور تقريبا عند الفرس.
قال الالباني في كتابه جلباب المرأة المسلمة (والجلباب: هو الملاءة التي تلتحف به المرأة فوق ثيابها على أ صح الاقوال، وهو يستعمل في الغالب إذا خرجت المرآة من دارها) ص 82. وبه جزم البغوي في تفسيره حيث قال (هو الملاءة التي تشتمل بها المرآة فوق الدرع والخمار)، وفي كتاب التحقيق في كلمات ا لقرآن للمصطفوي (الجلباب هو ما قيل إنه ما يغطي الثياب ويستر البدن والثياب... والملاءة التي يُشتَمَل بها، والملحفة الرداء الذي يستر تمام البدن، ويُلبس فوق الثياب) 2 ص 100. وفي الحقيقة هناك اختلافات مذهلة حول معنى الجلباب، بحيث الاطلاع عليها يشككنا في كل يرد من تفسير حوله عندما يتعرض المفسرون لآية الجلباب !!!.
2: وفي تصوري لو أن حملة هذا الرأي ـ ذلك أن هناك من يرى هذا الرأي المنسوب لعبد الله بن مسعود ـ قالوا بان (ما ظهر) إشارة إلى (الجلباب) وليس الثياب لكان أوجه وأنسب، ولكن ربما يعترض أصحاب هذا الرأي بأن الجلباب ظاهر بحد ذاته، ولذا يكون من اللغو بمكان أن يكون هناك سماح بإظهار ما هو (ظاهر) بحد ذاته، وهذا تصور يحمل ثغرة كبيرة، فإن المسموح به ليس الإظهار، بل الإبداء، فالإظهار قائم، ولا نقاش حوله، ولكن الذي تركز عليه الاية الكريمة هي عدم تحريم الإبداء، وهو أمر زائد على الإظهار كما قلت سابقا، وهي النقطة التي غابت على كثير من الفقهاء والمفسرين. ولكن ماذا نستفيد من الإبداء هنا؟ ربما يفيد الابداء هنا المزيد من أظهار الظاهر بالالوان أو الزخارف أو بعض العلامات التي تزيد من ظهوره بشكل وأخر.
3: ويستدل بعضهم لحملة هذا الراي بقوله تعالى (خذوا زينتكم عند كل مسجد)، فقد ورد في صحاح السنة أن المشركين كانوا يطوفون عراة حول المسجد الحرام، فنزلت هذه الاية ردا على هذه الظاهرة، حيث يستفيد بعضهم أن الإشارة هنا إلى الثياب، ولكن يرد على ذلك المعترضون بما يلي:
ألف: ان الزينة هنا تنصرف إلى ما يستر العورة، وليس بالضرورة إلى ثياب المرأة المسلمة وهي خارج بيتها، مع غير المحارم، وممّا يقرّب هذا التصور أو الاعتراض، أن الآية رقم 26 والآية رقم 27 كانتا تتحدثان عند ستر السوأة بما أنزل الله من لباس وريش (يا بني آدم قد أنزلنا عليكم لباسا يواري سؤاتكم وريشا ولباس التقوى ذلك خير ذلك من آيات الله لعلهم يذكّرون، يا بني آدم لا يفتننّكم الشيطان كما أخرح أبويكم من الجنّة ينزع عنها لباسهما ليُريهما سؤاتهما إنّه يراكم هو وقبيله من حيث لا ترونهم إنّا جعلنا الشياطين أولياء للذين لا يؤمنون... يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد...)، فسياق الآيات يفيد قضية مركزية، تلك هي ستر العورة، ولذلك يقول الرازي في تفسيره الكبير (... فوجب حمل هذه الزينة على ستر العورة) 7 ص 65. وفي مجمع البيان للطبرسي (... وقيل معناه خذوا ما تسترون به عوراتكم وإنما قال ذلك لأنهم كانوا يتعرون من ثيابهم للطواف...)، وفي الواقع لو أخذنا سبب النزول من جهة، وأخذنا مادة الخطاب(يا بني آدم) لاكشتفنا أو استقربنا أن المقصود هو ستر العورة بالمعنى الخاص، ذلك أن الخطاب موجّه حتى للذين كانوا يطوفون حول البيت عراة، موقف ادبي من القرآن الكريم تجاه هذه الظاهرة، فقد قال القرطبي (هو خطاب لجميع العالم، وإن كان المقصود بها من كان يطوف من العرب عريانا...) 4 ص 165، فليس ممّا يخالف المعقول أن نقول أن القرآن قد يخاطب ببعض التكاليف الاخلاقية حتى ا لذين لم يدخلوا في دائرته الاعتقادية. وفي الاثر المروي عن أئمة الشيعة ما يسلط بعض الضوء على ما من شانه التقليل من أهمية هذا الرأي، ففي تفسير القمي 1 ص 229 (كانوا يطوفون بالبيت عراة... فأمرهم بلبس الثياب)، مما يشي با نها ثياب ستر العورة لا أكثر ولا أ قل. وفي التراث السني أيضا ما يأتي في مثل هذا السياق. وبالتالي، فإن الانصراف لستر العورة الخاصة أرجح من غيره وقد قال به علماء كبار منهم أبن خزيمة في صحيحه 4 ص 208.
باء: وأذا تنزلنا وقلنا إن الزينة الظاهرة هنا هي الثياب، فهناك نقاش حول ذلك، أي في حدود ذلك، فهي قد تنصرف إلى الثياب الجميلة، وليس للثياب بشكل عام، وهو خلاف الأطلاق في الاية الشريفة، وقد ينصرف إلى ثياب خاصة تلبس في المسجد عند الصلاة أ و أثناء الطواف حول المسجد الحرام، وهو أيضا خلاف الاطلاق، وقد ينصرف إلى الثياب في العيدين وليس دائما، وهو مروي عن أئمة الشيعة.
جيم: ولكن ما المانع أن تكون الزينة التي ندب الله لها هي الزينة بمعنى الحلي والطيب والحناء، وليس الثياب، وللعلم أن كلمة الزينة تنطبق على مثل هذه المصاديق والامور اكثر ممّا تنطبق على الثياب، وفي هذا يقول شمس الدين (... إن الثوب لا يسمّى زينة لا لغة ولا عرفا، وتخصيصه ببعض آحاد الثياب المزخرفة التي يمكن أن يدعي صدق الزينة عليها والتي يرتديها بعض الخاصة في المناسبات، غير صحيح لمنافاته لقوله في الاية / ظهر / الدال على أ ن الاستثناء أمر شائع عام بين الناس لا يختص بحال من دون حال، ولا بقوم من دون قوم)، وحتى الثياب الملوّنة لا تعتبر زينة بالضرورة، كما يرده أن هناك أخبارا تفيد أن لبس الثياب الملونة كان شائعا في زمن النبي الكريم حتى بين نسائه، فقد روي عن إبراهيم النخفي أنه كان يدخل مع علقمة والأسود على أزواج النبي صلى الله عليه وسلم فيراهن في (اللحف الحمر)، كذلك عن أبي مليكة قال: (رأيت على أم سلمة درعا وملحفة مصبغتين بالعصفر) وعن القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق أن عائشة كان تلبس الثياب المُعصفرة، وهي مُحرِمة، وعن هشام عن فاطمة بن المنذر إن أسماء كانت تلبس المعصفر، وهي محرِمِة، وعن سعيد بن جبير أنه رأى بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم تطوف بالبيت وعليها ثياب معصفرة ـ راجع جلباب المرأة المسملة للألباني ص 122 ـ فهذه الثياب الملونة كما يبدو لم تحسب من الزينة، لأنها لو كانت من الزينة كان الواجب أخفائها حسب هذا المنطق، خاصة أنهم يساوون بين الاخفاء والابداء!!
4: ثم هناك من الآراء التي لا تشير بأن الزينة الظاهرة المقصودة هنا هي الثياب، وهي اراء لعلماء ومفسرين كبار. ثم أن ابن مسعود يقول (الثياب) ولكن بلا تحديد وتوصيف، أي بلا بيان من شانه يساعد على الفهم والاستنتاج، فنحن بين يدي رأي غامض الى حد كبير.
وقبل هذا وذاك، هذه ليست روايات عن النبي كما يتوهم من العنوان، بل هي روايات عن ابن مسعود، تقف عنده، وليس من المعلوم أنه يرويها عن النبي، بل هي رأيه الخاص، ولم يسند الرجل ما نقل عنه الى النبي الكريم، ومن هنا، هناك تحفظ في تسميتها روايات، لأن ضابط الرواية الجوهري في الثقافة الدينية بل ا لعلم الديني الاسلامي كونها مروية عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
ثالثا: دفاع عن الرأي بوجه آخر.
هناك من يرى أن الزينة الظاهرة هي (الثياب) فعلا، ولكن بوجه آخر، حيث يرى أن موضوع (ما ظهر) اضطرارا، أي أن ما ظهر منها من غير إرادة وقصد، كأن يتلاعب الريح بجلبابها فيظهر ما تحت ذلك من ثياب، وبالتالي، فالموضوع هو (ما ظهر) من دون قصد. وهذا الرأي غريب للغاية للأسباب التالية:ـ
1: لا يوجد دليل على أن موضوع (ما ظهر) هو اضطراري، ربما الموضوع اختياري أصلا، أو هو من صنع المجتمع، فقد يكون منصرفا لما تعارف عليه المجتمع أنذك من كشف لبعض أجزاء الجسد كأن يكون الوجه، كما كان ذلك فعلا، وسوف نفصل بهذه النقطة في فصل لاحق بإذن الله.
2: القرآن يرخّص بإبداء (ما ظهر) منها، والبداء كما قلنا هو ظهور مع إضافة، فإين هي الاضطرارية هنا، وكيف يصدر ترخيص فيما هو اضطراري؟ لو كان موضوع (ما ظهر) اضطراريا لأمضاه ا لقرأن على هذا المستوى، ولا داعي لإدخال درجة أعلى في التظهير، خاصة وإن الإبداء يتضمن إرادة مسبقة.
رابعا: محاولة بعيدة
ينبري كثير من الكتاب لتصوير الثياب زينة باعتبار ما تقوم به من حفظ وصيانة للجسد الأنثوي، يحميه من نظرات الطامعين وذوي النزعة الحيوانية في التعامل مع هذا الجسد بشكل وآخر، فهو زينة من هذه الناحية، وإذا كان ذلك حقا يجب أن يكون النقاب ـ مثلا ـ زينة أيضا، وهكذا كل ما يستر الجسد فهو زينة، وفي الحقيقة مثل هذا التفسير يكاد يكون أدبيا شاعريا أكثر من أن يكون علميا يستند إلى قراءة جادة في تضاعيف اللغة و استعمالاتها.
التعليقات