يردد هابرماس دائما: أن العنف هو quot;عطل في الاتصالquot;، وفقا لنظريته في الفعل التواصلي. فالمدار الأخلاقي والسياسي الذي تفترضه الحداثة يملي تبادلا عقلانيا ما بين أصحاب التصورات والعقائد المختلفة، يكون حرا من التعتيم أو التحريف المعرفي، وبما ييسر السبيل إلى بلوغ المعرفة العالمية التي يمكن للعقل أن يصادق عليها.
بيد أن الحداثة لا تقضي الالتزام بهذا التبادل فقط، وإنما تتطلب من شركاء المدار العام، وهم غالبا أصحاب رؤي وقناعات مختلفة، إدراج تصوراتهم ونظرياتهم هذه في سياق نسبي، وعلي قدم المساواة مع بعضها البعض، و دون أن يعني ذلك التفريط بزعم المصداقية المطلقة التي قد ينسبها كل صاحب نظرية أو تصور إلى رؤيته الخاصة.
والأبعد من ذلك، أن من المتوقع من صاحب النظرية أو التصور أن يحتكم إلى منظور الآخرين في تقييم نظريته أو تصوره المعني بما يجعله، أو يجعل النظرية أو التصور، جديرا باحتلال موقع مناسب في مدار التبادل العقلاني الحداثي.
هذا ما لا تطيقه الأصولية ndash; حسب هابرماس -أو تقدر على الامتثال به. فالأصولية من حيث إنها الإطار النظري لأفعال العنف المنظمة اليوم هي ردة فعل ضد الحداثة، حتى وان كانت ردة فعل حديثة، فهي، وخلافا لما تقتضيه الحداثة، لا يمكن أن تسلم بإمكانية الاندراج النسبي لعقيدتها الدينية في مدار تتجاوز فيه التصورات والعقائد المختلفة من دون أن تضحي بالحقيقة المطلقة التي تزعم ملكيتها، فضلا عن انها غير مستعدة أن تدنس عقيدتها من خلال النظر إليها من منظور الآخرين. غير انه في إبريل عام 2004 قدم هابرماس طرحا مبتكرا لدور الدين في المجتمع المعاصر، في مؤتمر دولي عن quot;الفلسفة والدينquot; في جامعة بولانزر لودر. وكان من أبرز ما طرحه في بحثه المعنون: quot;الدين في النطاق العامquot; هو أن quot;التسامحquot;أساس الثقافة الديمقراطية اليوم، مسار باتجاهين دائما، ولهذا لا ينبغي فقط أن يتسامح المؤمنون إزاء اعتقادات الآخرين، بما فيها عقائد غير المؤمنين وقناعاتهم، فحسب، بل إن من واجب العلمانيين غير المتدينين أن يثمنوا قناعات مواطنيهم الذين يحركهم دافع ديني quot;.
ووفقا لنظريته في الفعل التواصلي فإن هذا القول يوحي بضرورة أن نتبنى وجهة نظر الآخر. ولعله سيكون من غير المعقول ان نتوقع أن يتخلى المتدينون بالمرة عن قناعاتهم الراسخة عند الدخول في النطاق العام الذي يصير فيه الاستدلال العقلاني نمط خطابنا الأساسي.
بيد أنه أكد في محاضرة عامة مؤخراً: quot;إن قوة التعاليم الدينية وقدرتها على صياغة البديهات الأخلاقية فيما يتعلق بأشكال الحياة الإنسانية الفاضلة، تجعل من التمثلات الدينية المتعلقة بالقضايا السياسية ذات الصلة، مرشحا جاداً لمضامين حقيقية ممكنة. ومهما كانت مفاهيمنا الفلسفية العلمانية قوية ومقنعة ـ كفكرة حقوق الإنسان على سبيل المثال ـ فإنها تستفيد، من حين لآخر، من اتصالها المتجدد بأصولها المقدسة.
والواقع أنه حتى عهد قريب كان هابرماس معروفاً بأنه مفكر علماني خالص، ورغم أنه تناول في كتاباته موضوعات دينية متعمقة، فإنه يصعب إدراجه في خانة الفلاسفة المتدينين.
ففي خريف عام 2001 تلقي هابرماس جائزة السلام من رابطة بائعي الكتب الألمانية، وكان لعنوان كلمته في الحفلquot; الإيمان والمعرفة quot;وقعاً دينيا ً. كما شدد الخطاب الذي ألقاه بعد مدة قصيرة من هجمات الحادي عشر من سبتمبر على أهمية التسامح المتبادل بين المقاربتين العلمانية والدينية في الحياة.
والواقع أننا إذا تتبعنا مسار تطور هابرماس الفكري لا نجد غرابة في ذلك. وإذا ألقينا نظرة على أبرز عمل فلسفي عند هابرماس (مجلدي كتابه العمدة quot;نظرية الفعل التواصليquot;عام 1981) نجده يِؤكد أن المفاهيم الحديثة من قبيل المساواة والعدل هي صيغ علمانية لمفاهيم يهودية ـ مسيحية قديمة.
وبالمثل، فان فكرتنا عن القيمة الجوهرية للمساواة بين البشر ـ التي هي مهاد حقوق الإنسان ـ تنبع مباشرة من المفهوم المسيحي لمساواة الرجال والنساء كلهم عند الله. ولو اختفت هذه المصادر الدينية القيمة من الأخلاق والعدالة، لكان من المشكوك فيه ان تستمر المجتمعات الحديثة في الحفاظ عليها.
ولخص هابرماس، في مقابلة أجريت معه مؤخراً، هذه الرؤى على النحو الآتي:
quot;في الفهم الذاتي المعياري للحداثة عملت المسيحية كأكثر من محض مبشر أو محفز، أما نزعة المساواة الشمولية التي منها نبعت مفاهيم الحرية والحياة الجمعية المتضامنة وسلوك الحياة المستقل والانعتاق، وأخلاق الفرد وضميره، وحقوق الإنسان والديمقراطية فهي الإرث المباشر لأخلاق العدالة اليهودية وأخلاق المحبة المسيحيةquot;.
أستاذ الفلسفة جامعة عين شمس
dressamabdalla@yahoo.com
التعليقات