هذه المقولة رغم طابعها الديني تحظى بإجماع التيارات القومية والليبرالية واليسارية في فكرنا العربي المعاصر؛ الذين يعتبرونها الشرط الأساسي للدخول إلى الحداثة.
تتعدد مظاهر التحديث في حياتنا الراهنة ولكن التخلف الشديد لبلادنا بالنسبة لبلاد أخرى في مجالات كثيرة جعلنا نعتقد أن هناك أوجه كثيرة للخلل في مسيرة النهضة. ونجد إجماعاً لدى المثقفين على أن من أبرز جوانب الخلل هو أن رجال الدين لم يقوموا، بالشكل الكافي، بدورهم في تكييف الدين مع مقتضيات الحداثة. أما لماذا لم يقوموا بدورهم فذلك لأن باب الاجتهاد قد أغلق من عدة قرون. والواقع أن هذا الكلام بالرغم من هيئته الرصينة مسكون بضروب شتى من العبث. فنحن لا نعرف متى أغلق هذا الباب، ومتى كان مفتوحاً أصلاً، وما الصعوبة في إعادة فتحه؟
وإذا عرّفنا الاجتهاد بأنه قيام الفقهاء، إزاء وقائع وحوادث جديدة، انطلاقاً من قواعد معينة، بإصدار فتاوى وأحكام جديدة، وجدنا أن هذا أمر يحدث كل يوم. وكثيراً ما وجد رجال الدين أنفسهم مضطرين إلى استنباط أحكام جديدة عبر التاريخ. ولم يغلق في هذا الأمر أي باب. فالتاريخ مليئ بمن يتمسكون بحرفية النصوص من جانب ومن يحرصون على روحها من جانب آخر، وهذا شأن رجال التشريع في جميع الثقافات. كما أن تاريخ الفكر يحفل بالمدارس المحافظة التي تتشدد والمدارس المجددة التي تتساهل ليس من باب التفريط ولكن تحت دعوى مواكبة العصر. ولا علاقة لكل ذلك بباب اجتهاد مفتوح أو مغلق.
كما أن كلمة اجتهاد نفسها تعني أن يصدر الفقيه حكماً بشأن حادثة جديدة ولا تتضمن بالضرورة أن يكون هذا الحكم بالتحليل أو بالتحريم. فالمجال مفتوح لإصدار فتاوى متباينة. ولو نظرنا إلى مستجدات مثل quot;تدخين الحشيشquot; أو إضرابات العمال أو أفلام السينما أو زراعة الأعضاء نجد أن هناك الكثيرون من رجال الدين قد سمحوا بها وآخرين قد حرموها. وجميعهم مجتهدون. فبأي حق أسمح لنفسي أن أمنح رتبة مجتهد لرجل الدين الذي أصدر الفتوى التي تروق لي وأمنعها عن الآخر.
يتضح مما سبق أن مقولة quot;فتح باب الاجتهادquot; يقصد بها شيء آخر في فكرنا المعاصر، وهو ضرورة أن يصدر رجال الدين فتاوى تسمح بدفع عملية التحديث وتهيئ عقولنا لقبول الشروط الاقتصادية والسياسية والحقوقية التي يتسم بها عالمنا المعاصر. ورغم اتفاقنا مع أهمية هذا الأمر إلا أنه لا يعد فتحاً لباب الاجتهاد بل تعبئة لرجال الدين وتحديد مسار مسبق وإلزام للمجتهدين بالسير فيه. وهو الأمر الذي يطيح بما تتضمنه كلمة الاجتهاد من دلالات على الحرية.
إذا كان تعبير فتح باب الاجتهاد مليئ بكل هذه المتناقضات فما هو السر وراء الدعاية المتواصلة له ولماذا يأتي دائماً لتزيين خاتمة الخطب والأبحاث التي يقوم بها المثقفون الحريصون على تجاوز واقعنا المتخلف.
في الواقع تأتي كلمة الاجتهاد دائماً مصحوبة بالحديث عن الشروط الواجب توافرها في من يجتهد وهي أن يكون من خريجي المعاهد الدينية وملماً بعلوم التفسير والحديث والفقه..إلخ. الاجتهاد إذن ليس مفتوحاً لكل فرد من الأمة والنتيجة الضرورية هي أن يصبح حل المشاكل وضروب الترخيص والرقابة حكراً على رجال الدين، ويسلب حق النقد من المثقفين والأكاديميين الذين يتم اختزالهم داخل مقولة أهل الاختصاص أي الذين يلجأ إليهم رجال الدين للاستنارة برأيهم إذا ما وجدوا حاجة لذلك.
وأخيراً يؤدي ترديد هذه المقولة وتكريسها إلى مد سلطة رجال الدين إلى جميع مجالات الحياة الفكرية والاجتماعية ولا يستطيع أحد أن يمارس الفن التشكيلي أو التمثيل المسرحي أو حتى يطالب بحقوقه الشخصية والسياسية إلا إذا صرح له رجال الدين المجتهدين بأن هذا quot;حلالquot;.
وهكذا نجد المقولة التي أطلقت كي تمنح المواطن العربي مزيداً من الحرية تنتهي بأن تكون شكلاً من أشكال الوصاية. ولا حل إلا بالتمرد على هذه الوصاية من خلال مطالبة المواطن بحقوقه وممارسته لما يحب ويريد والتعبير عما يعتقد من أفكار وآراء دون انتظار لإذن من رجال الدين ودون انتظار حتى يفتح بعض رجال الدين باب الاجتهاد الذي كان مغلقاً.