هو تعبير يطلق في الغالب على كل سلوك يتبناه المواطن العربي ليؤكد به حريته ويتخلص به من الامتثال للأعراف السائدة.

quot;لا ينبغي أن نرفض التجديد وعلينا أن ننفتح على تجارب الآخرين وأن نتفاعل معها ولكن يجب علينا أن نحذر من التقليد الأعمى الذي يقضي على شخصيتنا القوميةquot;
كلام جميل نستمع إليه مراراً وتكراراً من quot;مفكرينا الكبارquot;، ويبدو لأول وهلة أنها توصية لا غبار عليها. ولكن لو دققنا النظر، لوجدناها مثل باقي توصيات الخطاب الثقافي العربي المعاصر تحمل في داخلها أسس نفيها. ولبيان ذلك يمكننا تتبع المقصود بتعبير التقليد الأعمى من خلال تاريخ الفكر العربي الحديث:
في القرن التاسع عشر قرر بعض الأعيان استخدام ثرواتهم في الصناعة ليتحولوا إلى رأسماليين من النوع الحديث. وفي هذا الإطار تم تقليد الغرب، على قدر الطاقة العربية، فأنشئت بورصة للأوراق المالية وأقيمت المصانع وتأسست البنوك لتمويل المشاريع الاستثمارية. ورحبت الصحافة وقتها أيما ترحيب بهذا التحديث للبلاد. وفي عام 1899 قام عمال مصانع السجائر بمصر بإضراب للمطالبة برفع الأجور. فخرجت كبرى الجرائد تتحدث عن تقليد عمال مصر لعمال الغرب تقليداً أعمى وأصبح الإضراب مخالفاً لخصوصياتنا الثقافية. وهكذا فإن البورچوازيين العرب عندما يقلدون البورچوازيين الغربيين فإنهم يعتبرون ذلك أمراً إيجابياً يساهم في تقدم البلاد ورقيها وفي زيادة ثرواتهم أيضاً. أما تقليد العمال العرب لعمال الغرب فهو تقليد أعمى. وهكذا نكون قد فهمنا الآلية التي يعمل بها الخطاب الثقافي العربي والتي تم تطبيقها بطريقة منهجية كل مرة يحاول فيها أن يكتسب المواطن العربي أرضاً جديدة لحريته. فلقد وصف خلع هدى شعرواي للبرقع في ميدان إيذاناً ببدء انخراط المرأة العربية في الحياة الاجتماعية والسياسية بأنه تقليد أعمى للمرأة الغربية وكذلك وصفت مظاهرات شباب الجامعات عام 1968. كما امتدت تهمة التقليد الأعمى إلى مدارس التجديد في الأدب والفن.
مما لا شك فيه أن المظاهر التي رصدناها للتو تعبر بالفعل عن تقليد للغرب ولكنها لا تمثل سوى نسبة ضئيلة من مظاهر التقليد التي تكتنف حياتنا منذ يقظتنا في الصباح وحتى آخر الليل والتي تحولت إلى طقوس يومية نؤديها بصورة آلية ولا يدينها أحد. أما الإدانة فهي توجه فقط إلى الحركات وأنماط السلوك التي من شأنها الحد من تحكم المتسلطين في مصير الأفراد في عالمنا العربي.
بالطبع هناك في عالمنا العربي تقدميون يؤيدون إضرابات العمال وتحرر المرأة ومظاهرات العمال وهم لا يستخدمون تهمة التقليد الأعمى لهذه الحركات. ولكن هناك ظاهرة تحظى بإجماع أكبر في إدانتها وهي ظاهرة افتتان الفتيان والفتيات بنجوم الغناء والتمثيل وتقليدهم في أزيائهم وحركاتهم. وكذلك اتباع موضات الأزياء الغربية، فهذه الأمور من وجهة نظر المحافظين والتقدميين على السواء تدخل في باب التقليد الأعمى.
ولكننا هنا نترك مجال السياسة لندخل في مجال الأنثروبولوچيا الاجتماعية أي مجال التعبيرات الثقافية للبشر. فمن المعروف في العالم أجمع أن الشباب يتخذ من الأزياء رسالة سيميوطيقية يعبر بها عن رفضه للامتثال للعرف الاجتماعي العام، كما أنه في فترة بحثه عن ذوقه الفني والأدبي يكون كثير التقلب ميالاً إلى التجريب. أما ظواهر الولع بالنجوم والتباهي بهم فإن لها أسباباً نفسية في هذه السن كما أن لها وظيفتها التواصلية في أوساط الشباب. ولكن أياً ما كان استحساننا لهذه الظواهر أو استيائنا منها فإن السؤال الذي ينبغي أن نطرحه هو:
لماذا نتعامل مع هذه الظواهر في الغرب على أنها تعبير أصيل عن شبابهم أما لدى شبابنا فهي تعد نوعاً من التقليد الأعمى؟ إذا كانت الحاجات في هذه المرحلة من العمر واحدة فإن أشكال التعبير فيها تكون بالضرورة متشابهة. ولهذا فإنه من الظلم والتعسف اتهام شبابنا بالتبعية وضياع الشخصية والانسحاق أمام الشباب الغربي لأننا لو نظرنا إلى الشباب في أفريقيا وأمريكا اللاتينية واليابان والصين وروسيا لوجدنا نفس الظواهر تقريباً.
وليس الهدف من ملاحظاتنا هذه هو رفض استخدام تعبير quot;التقليد الأعمىquot;. إذ يجوز من الناحية المنهجية استخدامه للإشارة إلى التطبيق الآلي لأحد الأساليب المستخدمة دون إجراء التكييفات الضرورية والتي يستدعيها الوضع الخاص للمجال المنقول إليه. وهنا يمكن لتعبير التقليد الأعمى أن ينطبق على حلول تكنيكية وعلى اختيارات نظرية وجماعية وفردية. أن يحدث تعديل وتكييف فهذا ضروري. إذ أن الطريقة التي يستذكر بها الطالب الأول دروسه ليست بالضرورة هي الطريقة التي تصلح لجميع الطلاب. وهكذا يكون استخدام تعبير التقليد الأعمى مشيراً إلى أضرار قد وقعت بالفعل. ونحن هنا لا يهمنا التحديد الموضوعي للمصطلح بقدر ما يهمنا استخدامه في السياق الثقافي العربي المعاصر. وهنا نلاحظ أن تعبير التقليد الأعمى قد استخدم تهمة في وجه إنشاء المسارح وكتابة الروايات والشعر الحر والفن التشكيلي والموسيقى. هذا في مجال الفنون وكذا الحال في مجالات الفلسفة والعلوم الإنسانية والعادات الاجتماعية والمؤسسات السياسية والاقتصادية. سياق الإستخدام إذن هو الذي جعله أحد أركان التخلف.