لقراءة المقدمة انقر هنا

مجموعة منقاة من المعتقدات والأسس الفكرية التى يحظر نقدها، والهدف من وراء ذلك هو الحفاظ على الأمر الواقع. ولكن الثوابت كلمة قديمة ذات دلالة بسيطة حيث تدل على ما لا يتحرك ولا يتغير. وفى المنطق والرياضيات الثابت هو ما يكون محدد القيمة فى حين أن المتغير هو ما يقبل قيماً مختلفة فمثلا عندما نقول quot; سقراط quot; فهذا ثابت لأنه يدل على شخص بعينه أما عندما نقول : س من الناس أو فلان فهذا متغير لأنه يمكن أن يشير إلى أى شخص.

ولكن كلمة ثوابت تشيع الآن فى الخطاب الثقافى العربى محملة بدلالة مختلفة إذ تعنى مجموعة من المعتقدات لا يجوز نقدها أو إنكارها أو حتى إخضاعها للمناقشة. ولكن ما هى هذه المعتقدات؟ ولماذا يتم تحصينها ضد أى نقد؟

لو قمنا بعملية تحليل للمضمون لمواقع الخطاب التى ترد فيها هذه الكلمة لاكتشفنا أنها متغير ينطبق على أفكار متنوعة ومختلفة بحسب السياق. فهذه الثوابت قد تكون دينية مثل الإسلام دين ودولة أو تعدد الزوجات أو الشريعة مصدر القوانين. وقد تكون سياسية مثل الانتماء العربى ورفض التطبيع أو اقتصادية مثل القطاع العام ودعم السلع الضرورية أو اجتماعية مثل مجانية التعليم.ورغم تقديرنا للدور الهام الذى تلعبه هذه الأفكار فى حياتنا واحترامنا لرغبة المتحمسين لها فى تسميتها quot;ثوابتquot; إلا أننا لا نفهم لماذا ينبغى ألا تخضع للمناقشة أبداً.

ولو نظرنا إلى تاريخ الفكر لوجدنا أن الباحثين يميلون فى العادة إلى تقسيم منظومة العقائد التى تشكل أى دين أو أى مذهب أو أيديولوجيا إلى مجموعة من المعتقدات الأساسية ومجموعة أخرى من المعتقدات الثانوية. ففى الأديان تشمل المعتقدات الأساسية وجود الله والوحى والبعث وينبغى أن تكون محل تسليم من المتدينين أما أن البعث يكون للأجساد أم للأرواح فهذا أمر يمكن لهم الاختلاف فيه. وفى الليبرالية تعد الفردية من العقائد الأساسية أما عدد الأحزاب اللازمة لإقامة نظام سياسى ليبرالى فذلك أمر يقبل الاختلاف، وبالمثل فى الماركسية يكون الصراع الطبقى من العقائد السياسية أما طبيعة التنظيم السياسى المنوط به قيادة الطبقة العاملة فيمكن أن يكون محل خلاف.

ومهما كانت قيمة هذا التصنيف وصلاحيته، فإنه لا يتضمن أى إدانة للنقد والمناقشة فى ذاتهما. إذ أنه من حق أنصار أى مذهب انتقاد معتقدات المذاهب الأخرى الأساسية منها والثانوية. بل وحتى داخل المذهب الواحد لا يكون هناك مفر من التعبير عن المعتقدات الأساسية من خلال ألفاظ اللغة، وهذه الألفاظ محملة بدلالات متنوعة ومتطورة تاريخياً، ولا يوجد أى ضامن لأن يفهم كل البشر عبارة معينة بصورة واحدة. وكل الجدال الذى يملأ تاريخ الثقافة الإسلامية حول العلاقة بين ذات الله وصفاته أو حول تلقى بعض الآيات فى القرآن بالمعنى الحقيقى أو بالمعنى المجازى، إلا دليلاً على استحالة إبعاد أى معتقد عن مجال الجدال والمناقشة. ولكن لماذا يصر مستخدمو كلمة quot; الثوابت quot; على ضرورة إبعاد هذه الثوابت عن مجال الاختلاف والمناقشة؟ ولماذا يقيمون الدنيا ويطالبون بمعاقبة من يكسر هذا الحظر؟ ألا يعد هذا تسلطاً وقيداً على حرية الفكر والاعتقاد؟

يبرر حراس quot;الثوابتquot; موقفهم بأنهم لا يدافعون عنها باعتبارها معتقدات دينية أو سياسية ولكن لأنها quot;ثوابث الأمةquot;، أى أنها الأعمدة التى يقام عليها البناء الاجتماعى والتى من خلالها تتماسك الأمة فى وجه الأخطار، وبالتالى يكون دفاعهم عنها هو دفاع عن الأمة. ومنع الآخرين من انتقادها بأى وسيلة هو بمثابة منعهم من العبث بمقومات الأمة ودفعها للتفكيك والانهيار.وفى تصور هؤلاء الحراس أن هذه الرؤية تنطبق على مجتمعات الأرض قاطبة ومثالهم المفضل هو العلمانية بوصفها من الثوابت التى يقوم عليها المجتمع الفرنسى والتى يحميها القانون والإيديولوجيا السائدة. ولكن لو تصورنا أن كل تيار فكرى فى المجتمع أضفى هه الهالة من الأهمية على أفكاره وطالب الدولة بمعاقبة كل من ينتقدها ومصادرة أفكاره، ألا نغلق بذلك الحوار الفكرى فى المجتمع ليسود النفاق واللغة العقيمة؟

ليست هذه دعوة للتفريط أو التخلى عن ما يعتقد المرء أنه حق ولكنها دعوة للتمييز بين حقنا فى الدفاع عن آرائنا، وبين رغبتنا فى التسلط على عقول الآخرين. فعندما تتحرك الجماهير للدفاع عن مجانية التعليم أو للضغط على الحكومة من أجل استمرار دعم السلع الضرورية فإن هذا يعد علامة إيجابية على حيوية المجال السياسى وعلى ارتفاع مستوى الوعى عند الجماهير. أما بأن يطالب البعض أو الأغلبية بسجن أحد المفكرين ومصادرة كتاباته لأنه رأى أن مجانية التعليم تضر بمستوى التعليم ذاته أو أن دعم السلع يعرقل حرية الاستثمار، فهذا هو الخطر الأكبر لا على حرية الفكر فحسب بل وعلى التقدم الاجتماعى نفسه.

ولو عدنا الآن إلى سياق استخدام كلمة quot;ثوابت الأمةquot; فى الخطاب العربى المعاصر لوجدنا أنها تخرج دائما حجة لمواجهة أى دعوة للتغيير والإصلاح وخصوصاً فى مجال الحقوق الديموقراطية أو حقوق المرأة أو المطالبة بالإصلاح الدستورى والتشريعى. وتكمن خطورتها فى أنها تتضمن استعداء الدولة أو الجماعات المتطرفة ضد الرأى المخالف.
وأخيراً، إذا كنا قد أجمعنا عاى تخلف الأمة، وإذا كنا ننشد لها التقدم والازدهار، ألا يكون أجدر الأشياء بالنقد والمناقشة هى تلك التى يسمونها quot;ثوابت الأمةquot;؟

1- السياق الثقافي المغاير