فى كل قواميس الدنيا هى بلد أسيوى متقدم يوجد فى أقصى الشرق ولكنها فى الخطاب العربى المعاصر تمثل نموذجاً يقتدى به فى تحقيق التقدم التكنولوجى مع الاستمرار فى اضطهاد المرأة. وهذا المعنى الذى تتخذه كلمة quot; اليابان quot; عندما ترد فى الخطاب الثقافى العربى ليس إلا عرضاً من أعراض داء مستحكم فى ثقافتنا المعاصرة. فلقد وعى العرب منذ أكثر من مائتى عام بتخلفهم عن الغرب. وبدأت محاولات لتجاوز تلك الحال فى حدود الشروط التاريخية التى يعيشونها مثل بعثات محمد على وجهود إسماعيل باشا لجعل مصر قطعة من أوروبا. ومما لا شك فيه أن هيمنة القوى الاستعمارية على مقدرات الشعوب العربية كان من أكبر العقبات التى واجهت مسيرة التحديث. ولكن أدرك التحديثيون العرب من الطهطاوى إلى طه حسين، بأن الحداثة ليست منجزاً يتم استيراده جاهزاً للتطبيق، ولكن للحداثة اقتضاءات تفرض إجراء تغييرات جذرية فى البنى الاقتصادية والاجتماعية وقبل كل ذلك تلزم الحداثة بضرورة تغيير الطريقة التى يدرك الفكر بها العالم المحيط. كان ينبغى إلى جانب إنشاء الطرق ومد الجسور وإقامة المصانع تغيير منهج تربية النشء وطريقة حكم الرعية. كما أن تبنى نمط إنتاج يتسم بالديناميكية يقتضى فتح المجال أمام الحراك الاجتماعي وحفز القدرة على الإبداع المتجدد عن طريق ضمان حرية الفكر. وإلى جانب ذلك كله كان ينبغى القبول بتحرر المرأة وتحوليها إلى عنصر فاعل فى المجال الاجتماعى العام. ولقد وعى التحديثيون بكل ذلك وظهر هذا فى دعواتهم التى كانت تستهدف حث الحكام على قطع أشواط فى طريق التحديث وتهيئة عقول المحكومين لقبول المعطيات الجديدة للحداثة. بل وجعلوا من نجاح حركة تحرر المرأة مؤشراً على نجاح الحداثة بوجه عام.

وهكذا كان الحدس الأول لمفكرى النهضة العربية هو أنه لابد من السير على نهج أوروبا فى الإصلاح السياسى والاجتماعى. وأشار طه حسين فى كتابه quot; مستقبل الثقافة فى مصر quot; إلى أن اليابان التى تنتمى إلى الشرق قد قطعت أشواطاً كبيرة فى الأخذ عن الحضارة الغربية فى حين أن مصر التى تنتمى إلى حضارة البحر المتوسط وتنهل مع العقل الأوروبى من منهل واحد قد وقفت فى أول الطريق تقدم رجلاً وتؤخر الثانية. وهذا التردد الذى يعبر عن ضعف القوى الاجتماعية صاحبة المصلحة فى التحديث قد تجلى بصورة متعددة فى الدساتير وفى الممارسة السياسية وفى مناهج التعليم وغيرها. وجاء الخطاب العربى المعاصر يكرس هذا التردد ويبرره بل وأحياناً يذهب إلى حد إدارة الظهر للطريق والسير فى الاتجاه المعاكس. وفى إطار هذا الخطاب اكتسبت اليابان دلالة مغايرة تماماً لتصور طه حسين عنها. فاليابان فى نظر الخطاب العربى المعاصر قد نجحت فى مسيرتها إلى التقدم لأنها تمسكت بعاداتها وتقاليدها ونظمها التى كانت موجودة فى المجتمع اليابانى قبل تبنى الرأسمالية. ويترتب على ذلك أن العرب قد فشلوا لأنهم فرطوا فيما كان لديهم قبل الاحتكاك بالغرب واقتدوا بأوروبا أكثر من اللازم. والأمارة السياسية التى تستخدم للتدليل على صدق هذا الزعم هى أن اليابان مستمرة فى التمييز بين الرجل والمرأة وأن الزوجة تسجد لزوجها فى المنزل! والنساء لا تزاحم الرجال فى موقع العمل. والعمال يتفانون فى العمل أكثر من اللازم ولا يطالبون بأى حقوق لأن النساء يخصصن حياتهن للتسرية عنهم.

وهكذا تحولت اليابان فى المخيلة العربية إلى نموذج متوهم يسقط عليه الرجل العربى كل أمانيه وأحلامه المتناقضة. وللحفاظ على هذه الصورة الوهمية عن اليابان يرفض مخططو الفكر العربى القيام بأى دراسة علمية جادة عن الواقع اليابانى. ففى الوقت الذى يبرزون فيه اليابان بوصفها نموذجاً علينا الاقتداء به لا نجد أبحاثاً عربية تعكف على دراسة القانون اليابانى لنرى ما إذا كان يتضمن تمييزاً بين الرجل والمرأة فى الحقوق والواجبات ولا دراسة سياسية تبين حجم مشاركة المرأة فى الحياة السياسية ولا دراسة اجتماعية تبرز مدى تواجد المرأة فى المجال العام ونسبة المتعلمات والعاملات من النساء، وقبل كل ذلك لا توجد دراسة واحدة توضح لنا الفارق بين وضع المرأة اليابانية ودورها فى القرن التاسع عشرقبل النهضة التى بدأها الأمبراطور ميجى وبين وضعها ودورها فى نهاية القرن العشرين.
إن فكرة أن اليابان قد اخذ من الغرب العلوم الطبيعية والتكنولوجيا فقط هى أكذوبة كبرى يطيب للعرب وحدهم ترديدها، والشواهد على ذلك كثيرة، ويكفى النظر إلى النظام السياسى البرلمانى، والنظام القانونى القائم على المواطنة رغم تعدد الأديان، والإبداع الياباني فى مجالاً الأدب والسينما وحركة الترجمة الكبيرة. ويحضرنى هنا فى هذا السياق شاهد ذو دلالة إذ أوردت مجلة مجازين ليتيرير الفرنسية فى عددها الخاص عن الفيلسوف الألمانى مارتن هيدجر والصادر فى سـنة 1996 أن عدد الكتب التى صدرت عن هيدجر فى اليابان فى عامى 1954، 1995، يفوق عدد الكتب التى صدرت عن هيدجر فى نفس الفترة فى جميع دول أوروبا بما فيها ألمانيا نفسها. هذا فى الوقت الذى يكاد أنصار النموذج اليابانى من العرب يجرمون فيه تبنى الأفكار الغربية باسم الدفاع عن الهوية الثقافية.

قاموس التخلف: مقدمة

السياق الثقافي المغاير

الثوابت