بدءاً، لا بدّ من الإعتراف هنا بأنّ ما كتبته، حتى الآن، عن quot; قضيتي السويدية quot;، قد شكل نوعاً من الصدمة في نفوس بعض القراء؛ وتمّ التعبير عن ذلك بأشكال مختلفة، من ايميلات وتعليقات فيها ما فيها من مجادلة ونقد.. وردح أيضاً! قبل أيّ إعتبار، أحسَبُ أنه من واجبي التذكير، بأنني ـ ككاتب، لم أشأ بيع أوجاعي لأيّ كان. وبالمقابل، فمن حقي ـ كإنسان ، ألا يتجاهل أحدٌ معاناتي الحياتية الممضة، المستديمة، طالباً مني التحوّل لمجرد quot; روبوت quot; أصمّ، بلا مشاعر، ما عليه سوى خدمة هذه القضية السياسية أو تلك. أما أنني ـ برأي البعض ـ ألجأ لعادة التعميم، المجحفة، فيما يخصّ معاناتي الموصوفة؛ فأتساءل بدوري، ما إذا كان الجزءُ بمعزل عن الكل؟.. وما إذا كان أهلُ البلد، الأرقى في العالم، لا يمارسون بنفسهم خلطاً كهذا، ظالماً؛ حينما يأخذوننا ـ كمهاجرين مشرقيين، بجريرة بعض المتطرفين والإرهابيين، المحسوبين على أمة لا إله إلا الله ؟! وعلى كل حال، فقد توفرت دوماً، لحسن الحظ ، على أصدقاء ودودين من داخل وخارج السويد. وكان أن إقترح عليّ بعض هؤلاء الأصدقاء الإتصال بهذا الصحفي السويدي في مدينتي، اوبسالا، أو بذاك الإعلامي الكردي، المقيم في ستوكهولم. هذا الأخير، إستنكفت عن مراجعته بخصوص قضيتي، كيلا أحرجه. أما صاحبنا، السويدي، فلم أرَ مانعاً من مفاتحته بالأمر ما دام أن ذلك عمله، وواجبه. quot;آسف، وقتي جد محدود لهكذا أمور.. ولكنك تستطيع مراسلتي الكترونياً أو بريدياً! quot;، قال لي الرجل على الهاتف. لا، شكراً. أنني متأسف أيضاً، يا فخامة الصحفي.. فإذا لم يكن لديك وقت للإستماع لمعاناة زميل، كاتب، فلن يكون لديك بالتأكيد وقت لقراءة رسالته. وبما أن هذه القضية، كما قد تذكرون، توقفت مؤخراً عند إنتقالي لشقة جديدة؛ فلأقل بإختصار شديد، أنّ شركة السكن طالبتني بمبلغ يعادل 1500 اورو، على ما زعم أنها تصليحات الشقة القديمة؛ إضافة لمبالغ اخرى، ربما تعادلها، للايجار المزدوج واجرة النقل، الى ما يتوجب عليّ دفعه للمحكمة في حال تمّ تثبيت حكمها، القراقوشي، بحقي. هذا مع العلم، بأنّ مسؤولي الشركة أنفسهم، كانوا قد وعدوني خلال ما سبق ذكره من إجتماع، بأنهم سيطوون هذه المسألة نهائياً، بل وسيقدمون لي المساعدة اللازمة حين النقل. quot;لقد كان عرضنا ذاك، متحدداٌ فقط بموافقتك على الإنتقال إلى منطقة ـ كذا ـ التي كنت تقيم فيها قبلاً quot;، قال لي رئيس الشركة خلال إجتماعي به مجدداً. إنه يعني ضاحية الأجانب، تحديداً. أما أن أحصل، بحسب دوري، على شقة داخل المدينة، فهذا كثير عليّ ـ كأجنبي.. ويجب أن يكلفني الكثير الكثير!
عطفاً على ما أوردته آنفاً، بشأن ردة فعل القراء الأكارم، أقولُ بأننا إجمالاً في المشرق، ما فتئنا محتفظين بصورة شاعرية، وردية، عن موطن الفايكنغ هذا؛ صورة، هيَ من الترسّخ في أذهاننا، أننا غير مستعدين نفسياً لأيّ حبر أسود، أو كحليّ! ، يُشبّه لنا أنه يلطخها ويسخمها. من ناحيتي، أستعيدُ ما كنت قد قرأته طفلاً في مادة الجغرافية ، الخاصة بالصف السادس الإبتدائي، وفيها وصفٌ للسويديين بأنهم quot; أرقى شعب في العالم quot;. أيّ عالم، لا أدري الآن؛ أنا الموغل في عام إقامتي، العشرين ، في شبه الجزيرة الإسكندنافية: أهوَ العالم السفليّ، الذي كان دليلاً له شاعرُنا السويديّ، العظيم، غونار إيكيلوف؛بحسب عنوان أحد أجزاء ثلاثيته quot; الديوان quot;، والمنذورة شطحات أبياتها لعالمه الصوفيّ وأساطيره؟ في هذا المقام، لا بدّ أيضاً من ذكر رواية quot; رحلة إبن فطومة quot; للراحل نجيب محفوظ، والتي قرأتها هنا في السويد؛ البلد المتكرّم عليه بنوبل الآداب لعام 1989، وهيَ أرفع الجوائز العالمية طراً. في روايته تلك ، نتابع رحلة البطل، ذي الإسم المتنوّع عن إسم quot; إبن بطوطة quot;، أشهر رحالة المسلمين؛ رحلة، ستسلمه من بلد إلى آخر ومن خيبة إلى اخرى، حتى يعثر أخيراً على الفردوس الأرضيّ، المرتجى: السويد!.. وما دمنا بعدُ، نراوح في حديث الأدب، فلنرَ أيّ علاقة متواشجة بين مفردتيْ عنوان مقالتنا هذه. إنّ quot; السادي quot;، كما هو معروف، وصفٌ للشخص الواجد متعته في تعذيب الآخرين. وقد دأبنا، في مشرقنا نفسه، المبتلي بالديكتاتوريات، على وصم أساليب التعذيب الوحشية لرجال الأمن بـ quot; السادية quot;. ولكن ما هوَ غير معروف للكثير منا، أنّ هذه المفردة مرجعها إسم المركيز دو ساد؛ الأديب الفرنسيّ من القرن الثامن عشر، والمتوفي في السجن بعد إقامة طويلة، دهرية، في دياجيره. ما كان دو ساد، في واقع الحال، quot;مخترعَquot; هذه العقدة النفسية، الموصوفة، وبالرغم من أنها إرتبطت إعتباطاً بإسمه: فكل أنواع الممارسات الجنسية وأفانينها، كانت على مرّ التاريخ معلومة من لدن بني البشر، ويتوارثونها جيلاً إثر الآخر. إنّ تشديدي على مسألة الإعتباطية، إنما لإعتقادي جازماً بأنّ إقتران إسم أديبٍ عملاق، بحجم دو ساد، بمفردة مشنوعة الدلالة، لهوَ سبّة للأدب والإبداع، وللحرية أيضاً.
ما سلف من حديث، ربما سيفاقم الشقاق مع القارئ؛حدّ أن يقذفني بالقول: وهل ستخترع لنا بدوركَ نعتا قاموسياً جديداً، مُستبدلاً quot;السويديquot; بمحل quot;الساديquot;، بفرض ما بين اللفظين من قرابة؟.. لا، يا عزيزي، لم يدُر هكذا إختراع بذهني؛ ولستُ معنياً بأية قرابات، سويدية ً كانت أم هندية أم كردية!.. ولكنني هنا، بالمقابل، أتساءلُ ماذا سيكون عليه شعور مواطنينا السويديين، لو أنّ إسمهم قد إرتبط، لا قدّر الله !، بالعنصرية البغيضة؛ هذا الإرتباط، المُحال لسلوك سوادهم، اليوميّ الدائب، الموجه ضد المهاجرين عموماً. ولما كنت، فيما سلف من مقدمة، قد راهنت هنا وهناك على الذاكرة، فلأقل إذاً أنّ إرتباطاً مماثلاً بين ملةٍ ما ومفهوم معيّن، قد وجدَ له أمثلة اخرى تاريخياً: بربري ـ كوصمة للهمجي؛ وعلى الرغم من أنّ بربر ( أمازيغ ) ما يُسمى بـ quot;المغرب العربيquot;، همُ الذين إنساحت في الأندلس مآثر حضارتهم، المجللة براية الفتح الرباني. وكذلك الأمر في إستعمالنا لمفردتيْ تتري / مغولي، كتنويع على معنى quot; همجي quot;، الآنف الذكر ـ أو بالأصح، السيء الذكر!.. وغنيّ هنا التأكيد على الحضارة الراقية، التي خلفها لنا أولئك التتار / المغول، وخصوصاً في شبه القارة الهندية. السويديون، كما سبق لي ونوهت، ما فتئوا بنظرنا همُ الأكثر حضارة بين شعوب الأرض. ومن صفات رقيّ هذا الشعب، الإهتمام الشديد بالطبيعة والبيئة ومخلوقات الله، المستضعفة؛ فما بالك إذاً بالإنسان، والأطفال منهم بشكل خاص.بكل صدق، أؤكد لكم من جهتي، أنني تعلمت من صفة رقيهم ، الكثير الكثير. بيدَ أنني لا أدّعي نجاحاً في إمتلاك تلك الصفة، الموسومة. وكنت في مقال سابق، حول هذا الشأن / الشجن، قد ألمعتُ إلى حصولي ـ في بدء حلولي، الميمون، هنا ـ على كتاب معلومات، مدرسي، عن كيفية تأقلم الأجنبي مع السويد مجتمعاً وعاداتٍ وأنظمة.. وغير ذلك: من جملة النصائح والإرشادات، المافتئت مترسخة بذاكرتي، أنّ العادة هنا لا تحبذ أن يحشر المرء أنفه في أمور تعني غيره؛ ومهما كان هذا الغير صديقا مقرباُ. وإذاً، فمن غير اللائق ـ كمثال ـ أن تسألَ كائناً من كان عن دخله وطعامه وشرابه وعائلته.. الخ. على أنّ إرشادات الحضارة والرقيّ، يبدو كما لو أنها منذورة لأهل البلد، الأصليين، وحسب. فهمُ، والحالة تلك، غير مجبورين على تطبيق تلك الأخلاقيات في تعاملهم مع الأجنبي. كأني بهم يقولون لك: أن تتعلمَ أو تتسخم، فهذا شأنكَ وحدك!.. أما أن توهم نفسك، ومن حولك من ولدٍ وتلد، أنكَ أضحيت سويدياً، فهذه مسألة ربما تحال للطبيب النفسي. قبيل إحالة كهذه، تعال معي، عزيزي القارئ، إلى بعض التطبيقات، العملية، لذاك الكتاب، المدرسي quot; الحضارة السويدية من غير معلّم! quot;.
قلنا أنّ كاتب هذه الأسطر، الكئيبة، قد حظيَ ببعض جوانب الرقيّ السويديّ، المعلوم؛ وبالرغم من أنه في الأصل quot; ليسَ من ضيعة صغيرة quot;، كما إعتدنا القول. نعم. إنني إبن الشام، ولا فخر! من جهته، كان الوالد، المرحوم، فقيراً في حياته. ولكنه بنى بيتاً بيده، مستزرعاً فيه حديقة ساحرة، وفريدة بحق. فضلاً عما زرعه الرجل في نفوس أولاده، من تقدمية الفكر ومحبة الإنسان. هذا الرجل، حينما كان يقضي سنواته الأخيرة في السويد ، موغلاً في ثمانينات عمره، كثيراً ما إفتقدَ حياته الدمشقية؛ وخصوصاً، لدى تأمله حديقة شقتي، الصغيرة، والتي كان يزودني بإرشادات تتعلق بأزاهيرها وعارشاتها وشجيراتها. السويديون، للحق، مهووسون بالحدائق المنزلية. أما أن تكون إحداها من إبداع شخص غريب، لاجئ، فهذه مسألة فيها نظر: حتى من كان يعبر قرب حديقتي، من عمال شركة السكن، فإن البعض منهم دأب على النظر إليها بإزدراء، فيما الآخر ـ العفو ـ إعتادَ البصاق بإتجاهها.. لا بل وسياج جنينتي، المسكينة، سيكون هدفاً لغارتين مدمرتين من لدن سائق جزازة الحشائش، التابع لنفس الشركة المحترمة! لا تعتب إذاً على الجيران في الطابق المعتلي شقتك، إذا ما كانوا حاضرين أيضاً للتعبير عن عواطفهم تجاهك. يوماً إثر يوم، سيتهاطل على ورودك وأزاهيرك ما تيسّر من حمم الحقد، الضاري؛ من قمامة وأعقاب سكائر وإلى فظاعات أدهى. ولكن بما أن نبيكَ، الكريم ، أوصاك بسابع جار، فالأحرى أن تبادر إلى جيرانك أولئك، فتهديهم مرة ًشتلة من زرعك. quot;اوه! ألف شكر لكquot;، تهتفُ جارة السعد وهي تتلقى الأزهار. ثمّ لا تلبث أن تردف ذلك، في مرة اخرى، بمناولتهم صحن شهيّ من الشواء على الفحم محوّطٍ بمقبلات مشرقية: اوه، اوه.. الخ! إنما الحمم تلك، الحاقدة، لا تريد تخفيف غلوائها. تتفقدُ يوماً عارشة الكرمة، وإذا بها مقصوفة من أحد فروعها، البهية.. ثم تبع ذلك كسر القمة الخضراء، الخالدة ، لشجيرة التين. quot; اوه، اوه.. تماماً كما في اسبانيا! quot;، يهتف اولئك الجيران، أنفسهم، بلهجة مكر فصيحة، وهم يرونكَ منهمكاً في إزالة آثار العدوان ، تلك. أما أنّ وضعهم، الإستراتيجيّ، فوق شقتكَ سيكون كما في مسألة التفوق الجوي عسكرياً، فهيَ حكاية اخرى وربما تستلزم هدر معظم صفحات الموقع الإنترنيتي. ولكن بجملة واحدة، فقل أنّ قطيعاً من الفيلة يدبّ على مدار الساعة فوق رأسكَ. ناهيك عن صواعق الستيريو وقطع الموبيليا، النازلة برعودها وبروقها؛ بحيث أنّ طائر الكناري ـ صديق طفولة صغاري ـ قد لفظ أنفاسه رعباً وفرقا: والسويديون، كما شددنا آنفاً، أكثر رفقا بالحيوان من أطفالهم! أما ما سيَدهُمُ نومة طفليكَ من تلك الغارات، لتحيلها إلى كابوس مستطير؛ فحدّث بإسم ربك الذي خلق.. هكذا سيّدي الكريم، فبعد أبيه، أضحى طفل الأعوام السبعة، وقتئذٍ، بحاجة لموعد مع الطبيب النفسيّ، وبتوجيه من مدرسته. ولكن، ما قصصته هنا، حتى الآن، لا يعادل نسبته الواحد من مائة هذه المأساة، المستمرة؛ والتي لا يريد أن يوقفها أحدٌ، لا شركة السكن ولا البوليس ولا البلدية ولا الصحافة السخافة. لا أحد. وفي مسك الختام هذا، لا يسعني سوى الإشارة لبعض ذوي الحساسية مما يدعونه بـ quot; الأمور الشخصية quot;، بأنّ ما سلف من حديث لهوَ خلاصة تجربة حياتية محضة؛ تجربة مرّة، كانت على خلفية الحادي عشر من سبتمبر 2001، المشؤوم، ومستمرة بكل تفاصيلها تقريباً مذاك الحين. علاوة على التأكيد، بأنني فيما عرضته من لمحات تلك التفاصيل، غير معنيّ بالتعميم أو التشهير.

[email protected]