مع انتشار ملايين الأتراك خارج حدود بلادهم، كثّفت أنقرة برامجها الدينية بين الجاليات، إلا أنّ أنشطة المؤسسة الرسمية المعروفة باسم "ديانت"، وهي مديرية الشؤون الدينية، لم تقتصر على رعاية شؤون تلك الجاليات، بل تعدّتها إلى الجانب السياسي.
فقد نصّ اعتماد برنامج تكثيف أنشطة "ديانت" للفترة ما بين 2024 و2028، على زيادة عدد موظفي تلك المؤسسة مع تعميق تفاعلهم مع ضباط الاستخبارات التركية، الذين يعملون في دول الانتشار تحت غطاء ديبلوماسي. هذا المخطط يقضي بزيادة عدد الموظفين وأئمة "ديانت" من 600 إلى 1500 موظف، من المقرر إرسالهم للعمل "الدعوي" وراء الحدود.
وما يدلّل على أهمية هذه الخطوة في نظر أنقرة، رفعها ميزانية "ديانت"، حديثاً، إلى مستوى قياسي بلغ 130 مليار ليرة تركية (3.8 مليار دولار أميركي)، وهو ما يتجاوز مجموع ميزانيات الوزارات التركية الرئيسية.
في العام 2023، كانت ميزانية "ديانت" نحو 35.9 مليار ليرة تركية. أمّا في العام 2022، فكانت قرابة 16.1 مليار ليرة تركية. وحسب الخطة المعلنة اليوم، فإن الغرض من ذلك كان توظيف علماء دين في البلدان الكبرى ينتشر فيها مواطنون أتراك حيث تعتمد استخبارات أنقرة على دعم مسؤولين في السلطات المحلية في تلك الدول، فضلاً عن موارد لمغتربين موالين وجمعيات تابعة لهم.
هذا وتمّ تضمين مخصّصات إضافية ضخمة في الميزانية التركية للعام 2025 لتوسيع أنشطة "ديانت"، بما يفتح المجال لقيادة الاستخبارات التركية في استخدام الموارد المالية المتزايدة لتكثيف عملها في دول الانتشار بهدف توسيع نفوذ أنقرة في الخارج، وذلك من أجل التأثير على الوضع السياسي في الدول ذات القرار.
وبسبب الأوضاع الاقتصادية الصعبة في تركيا، والنمو المضطرب للتضخم، فإن الميزانية المرتفعة بشكل غيـر متناسب لـ"ديانت"، تسببت باستياء عام وانتقادات لحكومة حزب "العدالة والتنمية".
تأسَّست "ديانت" تأسّست عام 1924، وكانت مهمتها الرئيسية توفير الخدمة الدينية العامة للمواطنين الأتراك، بما في ذلك إدارة المساجد واختيار الأئمة ودفع رواتبهم. وكانت "ديانت" موجهة حصرياً إلى الإسلام السنّي، الذي عليه غالبية السكان في تركيا.
مع ازدياد أعداد العمال الأجانب الأتراك في أوروبا، افتتحت "ديانت" فروعاً لها في العديد من الدول الغربية من أجل تلبية احتياجات الجاليات التركية في تلك البلدان. ولكن تغيّر هذا الغرض بشكل جذري منذ وصول حزب الرئيس التركي رجب طيب إردوغان إلى السلطة.
وفي ظل حكمه، توسعت ميزانية "ديانت" بشكل كبير، يضاف إلى ذلك أنّ هناك مؤشرات واضحة على أن شبكة فروع "ديانت" خارج تركيا تم استغلالها لتحقيق أهداف سياسية واضحة للحزب الحاكم في أنقرة. إذ يمكن اعتبار إدارة “ديانت” ذراعاً استراتيجية قوية لأنقرة، حيث تساعد النظام في نشر أجندته الدينية والسياسية في داخل البلاد وخارجها.
عزّزت أنقرة قدرة "ديانت" الإدارية إلى حدّ كبير، وتضاعفت ميزانيتها 4 مرات في غضون عقدين، كما زادت حصتها من الإنفاق الحكومي بنسبة تراوح بين 30 و50 بالمئة، وزاد عدد موظفيها بنسبة 50 بالمئة، ليصل تقريباً إلى 150 ألف موظف.
مخصصات ميزانية "ديانت" تبلغ 6.8 مليارات ليرة تركية، وهو ما يزيد عن ميزانية 11 وزارة، بما في ذلك وزارات الاقتصاد أو السياحة أو الصحة، ولذلك يمكن اعتبارها واحدة من أكبر وكالات الدولة الرسمية في البلاد.
تقارير صحيفة "جمهوريت" التركية تنتقد ميزانيات "ديانت" المرتفعة بشكل مبالغ فيه جداً، وتشير إلى “انعدام الشفافية” في إنفاق تلك الأموال، فضلاً عن "إخفاء" تلك المبالغ واستعمالها بشكل “غير قانوني” من خلال شبكة واسعة من المؤسسات والمنظمات التعليمية والدينية التي تسيطر عليها "ديانت" التي "تنقصها الشفافية"، حسب بعض المراقبين.
تقول الصحيفة، إن المسؤولين الأتراك "يستخدمون تلك الأموال للقيام بنشاطات حول العالم ومن ذلك حضور مناسبات مختلفة، واستخدام وسائل نقل ذات رفاهية عالية، بما في ذلك طائرات الأسطول الجوي التابع للدولة، ومخصصات للأمن الشخصي والغرف الفاخرة في فنادق الدول التي يزورونها".
إقرأ أيضاً: توتاليتارية الدولار.. إلى أين؟
تتهمها كذلك، بأنّها أنشئت فروعاً في جميع أنحاء أوروبا منذ السبعينات والثمانينات "استجابة للأعداد المتزايدة من العمال الأتراك وعائلاتهم في الخارج".
ونظراً للنمو السريع في عدد الأتراك في البلدان المضيفة، تعزّزت شبكة المنظمة بشكل مطرد وتوطدت منذ ذلك الحين العلاقة مع "ديانت" التي تدير أكثر من ألفَي مسجد خارج تركيا، ولتلك المساجد والمؤسسات التابعة لها مواقف سياسية مؤثرة، ولا سيما أوروبا، حيث توجد نسبة كبيرة من الأتراك الذين نالوا جنسيات بلدان الاتحاد الأوروبي.
لا تزال شبكة "ديانت" تتوسع، ولا سيما في شبه جزيرة البلقان، التي تضم نسبة عالية من السكان المسلمين مثل مقدونيا وكوسوفو والبوسنة وبلغاريا وألبانيا، وتحاول “ديانت” إقامة علاقات مع المؤسسات الإسلامية الرسمية والمجتمعات المحلية في تلك البلدان القريبة جغرافياً من تركيا، وبما يتوافق مع السياسة الخارجية الشاملة الجديدة لحكومة أنقرة التي تهدف إلى زيادة النفوذ التركي إقليمياً ودولياً.
تشمل أنشطة "ديانت" توفير المنح الدراسية وتنظيم البرامج التعليمية وإصدار المصاحف والكتب الأخرى باللغات المحلية، إضافة إلى بناء مساجد جديدة ومراكز تابعة لها.
إقرأ أيضاً: موسكو وسياحة رجال الأعمال
أما قوة هذه الشبكة فكبيرة جداً، إذ تملك المنظمة تسلسلاً هرمياً ثابتاً مع قيادة واضحة. يتم تعيين أئمة المساجد المرتبطين بها ودفع رواتبهم من قبل أنقرة، كما يُشرف على عملهم مسؤولو “ديانت” بالسفارات والقنصليات في بلاد الانتشار، كما أنّ خطبة الجمعة الأسبوعية تكون مكتوبة بشكل مركزي في أنقرة ويتم تسليمها إلى أكثر من 2000 مسجد في الخارج، بهدف توجيه السكان الأتراك المقيمين في تلك البلدان.
هذا الهيكل الرسمي هو "أداة قوية" لحكومة إردوغان، تُستخدم لأهداف سياسية مثل الترويج للحزب الحاكم بين الأتراك في الخارج. وتُتهم باستخدام بنيتها التحتية في أوروبا لجذب الأصوات في الانتخابات التركية.
"ديانت" إضافة إلى كونها منظمة دينية - دعوية، إلا أنّها كذلك أداة سياسية في يد أنقرة توجّه إليها اتهامات، منها التدخل في الشؤون الداخلية لتلك الدول، ولا سيما من خلال السكان الناطقين بالتركية في المقام الأول، وذلك باستخدام العامل الديني لأغراض جيوسياسية.
التعليقات