تلغي هيمنة مركزية الثقافة الغربية إمكانيات الثقافات الأقل حضارة ومركزية في التعبير عن نفسها نتيجة عدم اعتراف هذه الثقافة بأشكال ثقافية إقليمية أخرى لها طابع وجذور البيئة والمجتمع او الحضارة التي تنشا فيها كما هو الحال بالنسبة إلى الثقافات الشرقية والتي يمكن أن يمتد تأثيرها الإبداعي والإنساني عبر حدودها، إلا أن مثل هذه الثقافات في الكثير من الأحيان مرفوضة من المركزية الأوربية نتيجة لشعورها بالهيمنة الحضارية.. إن الثقافة والفن والفكر بأبعادهما الإنسانية الكوسموبولوتية بعيدا عن مركزية الهيمنة لثقافة ما، ستحقق طرفي المعادلة، ثقافة تحافظ على خصوصيتها وهويتها وفي ذات الوقت تعبر نحو ثقافة الآخر، وسيؤدي هذا التكامل إلى تحقيق شمولية الوعي الإنساني. هذا النزوع التكاملي بين الثقافتين هو الذي يعطي لخصوصية الهوية تمايزها وفي ذات الوقت يمنح الفكر والفن هدفا إنسانيا شاملا. ولتوضيح هذا الأمر بدقة نقول بان هنالك فرض من المركز الحضاري على المراكز الأقل تطورا والتي عادة تسمى بالهوامش الحضارية. و بالتأكيد فان هذه الهيمنة نتيجة لأسباب منها: ألالتباس الحضاري الوحشي والغموض الفكري، وهذا سيؤدي حتما إلى أن ينقسم العالم الذي نعيش فيه إلى بؤر حضارية منعزلة ومنغلقة عن يعضها مما تعمق العزلة والاغتراب الذي تخلقه الهيمنة و الثقافة المنعزلة، وكذلك ما يخلقه تأثير الثورة التكنولوجدية، إضافة إلي الشعور بالاغتراب الوجودي. وينعكس دائما في المجال الثقافي، مما يضع المثقف وهذه المراكز ـ وخاصة الآن ونحن في زمن العولمة ـ أمام أزمة فكرية و معرفية تثير الكثير من القلق. ومما يعمق هذا الاغتراب والعزلة وهستيريا الروح المعاصرة أيضا هو:وجود الفوضى الكونية المنظمة التي تبدو حضارتنا في هذا العالم من خلالها وكأنها تنحدر نحو هاوية النهاية وليس غريبا أن يفنى كل شئ ويعود الإنسان إلى الغابة. وبالرغم من أن العولمة( بمعنى التكامل الحضاري) منحتنا حق الشك في أي يقين مقنن من جديد بما فيها الطواطم المقدسة، إلا أن ما يزيد عمق الأزمة المعاصرة هو العمل وبقصديه على استلاب الإنسان الثقافي والوقوف ضد الثقافة الفردية أو الاجتماعية وتشويهها (من قبل هذه المراكز)، ومحاولة محو أي اختلاف فكري عن طريق سلطة العنف والقمع.
أن رفض مثل هذه السياسة العالمية من قبل المراكز الثقافية في البلدان الأقل حضارة سيؤدي الى وضع المجتمع والإنسان في زاوية التمرد، ويصبح مم الضروري اكتشاف الوسائل المناسبة من اجل السيطرة عليه حتى ينسجم مع فكر هذه المراكز المهيمنة مما يخلق هذا اتجاها استغلاليا يجعل من العولمة انقلاب يتسم بالهيمنة على المراكز الحضارية الصغيرة فيؤدي إلى بروز سمة مميزة في الثقافة الإقليمية كرد فعل طبيعي ألا وهو: الحنين الى الماضي الذي يبدو وكأنه يوتوبيا متخلفة لأنه ماض خلقه النهب الامبريالي والاستعماري في هذه البلدان فيصبح وكأنه حنين الى صور الفقر والبدائية.
والحنين إلى الماضي سببه التمسك والبحث عن الهوية والخصوصية، وهو سلوك لمواجهة غزو الاغتراب الخارجي ـ السايكولوجي الذي يفرضه التبادل السلعي العابر للقارات في المجال الثقافي أي الغزو الثقافي الذي يحرص على ان يتحول إلى أشكال ثقافية وفنية ووسائل إعلام تفرضها الأقمار الاصطناعية على الثقافة الإقليمية. وبالتأكيد فان هذا يفرضه واقع جديد هو أن مراكز الإنتاج الثقافي والإعلامي والفني العالمي تمركز بأماكن حضارية قليلة فرضت ما يسمى بالقرية العالمية في محاولة لفرض ثقافة متجانسة تفرضها شركات الاحتكارات التي تعمل على إشاعة التجانس والتهميش الثقافي.
وكذلك وجود نخبة من المثقفين العالميين الذين ينظّرون لآديولوجيا التجانس التي تجد ضالتها في الإعلامي والتكنولوجي الذي تسيطر عليه المراكز الحضارية لفرض غزو ثقافي يخلق الاغتراب، وبهذا فقد ضيعت فرص التبادل الثقافي الأصيل والمتنوع بين الشعوب والأمم (انظر المصدر السابق)وهذا مما يخلق سوء التفاهم بين البشر ويعمم العنف التكنولوجي ـ الحضاري ضد الإنسان.
ومن اجل خلق الحصانة الداخلية إزاء هيمنة السطو الثقافي في زمن العولمة تتحول المجتمعات الإقليمية إلى ما يشبه الكيانات المعزولة مما يؤدي إلى العودة إلى كل ما هو ماضي وسلفي و فطري وبدائي مما يحتم نبذ وكره وحقد طائفي وقومي شوفيني على ميراث الفكر الحديث، وانحسار النظرة الكوسموبولوتية ـ الكونية للعالم أو ضد إبداع الإنسان الحضاري و المعاصر. ولكن إذا نظرنا إلى التطور التكنولوجي والإعلامي على أساس تكاملية التكنولوجيا وخدمة لجميع الثقافات في عالمنا فان العولمة تصبح ضرورة عالمية لأنها ستعني التبادل والتكامل الثقافي بعيدا عن الهيمنة من طرف واحد لمراكز القوى، ويصبح فتح الحدود أمام هذا التطور الهائل هو تحقيق النزعة التفاؤلية التي دعى لها فلاسفة القرن الثامن والتاسع عشر، بمواجهة فلسفة نهاية التاريخ والإنسان المتشائمة.
ومن جانب آخر فان الثقافة والفن والفكر بإبعادها الإنسانية ـ الكوسموبولوتية بعيدا عن مركزية الهيمنة لثقافة ما بل العمل على تكامل الثقافة الإقليمية، ستحقق طرفي المعادلة وستكون الثقافة الإقليمية جزء من تحقيق شمولية الوعي الإنساني. هذا النزوع التكاملي هو الذي يعطي لخصوصية الهوية لأي ثقافة ما تمايزها، وفي ذات الوقت يمنح الثقافة والفكر والفن العالمي ـ الكسموبولوتي غناه وتنوعه واختلافه باختلاف مصادرها وتنوعها. وإذا كانت هنالك خطورة نتيجة لهيمنة الآلة و تعميم آلية العقل التجريدي المعاصر وإشاعة التجانس والتشابه والتهميش الفكري مما يخلق ثقافة اغترابية وإنسان معزول، فان الخطورة تكون مضاعفة في الإبداع الفني، لان كل هذا سيحول نتاج الحواس إلى آلية وعقلانية تؤدي إلى تشيء الذات والفكر وتحويله الى فكر استهلاكي ( كما هو الشائع الآن في الوطن العربي)، وتخلق نوعا من انتفاء القدرات الحسية في الفن وتحتم سكون اللغة الفنية وتهميش الفن.
وبالرغم من هذا التطور التكنولوجي الهائل وما انعكس على تطور في الفنون البصرية في الفن العالمي الا ان السؤال الجوهري يبقى ملحا وهو: هل يتحول الفن الحسي إلى فن تتحكم به الكابلات والأقمار والفضائيات؟ وهل تكيف تقنية العقل التكنولوجي الجديد المدى الحسي والفكري والجمالي للثقافة والفن؟
أم أن الفن مازال يمتلك خطابه ولغته وتأثيره الإبداعي الذي سيشمل الإنسان والآلة معا من خلال اكتشاف الفنان لتلك الوسائل التي تكيف التكنولوجيا لخدمة اللغة الفنية التي ستستغل العلم لتطوير مفردات خطاب الإبداع الفني وهدفيته وليس العكس. وهل سيتولى الكمبيوتر أمرنا أم أن القلب النابض ومشاعر الإنسان تحت قيادة عقل متنور حاضن ومبدع للتطور التكنولوجي هي التي ستخلق اللغة الفنية و الإبداعية الجديدة.؟ اذن ماهي الحصانة الداخلية في مواجهة هذه الخطورة؟
بداً أن المشكلة الجوهرية هي أن حواضرنا المعاصرة لا تمتلك أساسا الحصانة الداخلية في مواجهة الغزو الفكري، لأنها مدن متلقية بشكل سلبي واستهلاكي للفكر والتكنولوجيا الأوربية. وهذا يفرض علينا ضرورة أن نتعلم الكيفية التي يمكن بها أن نحول هذه التكنولوجيا إلى جزء من ثقافتنا ومفردات لغتنا الفنية. لكن الالتباس الذي يعيق تطور الفن العربي الآن ويخلق جوهر أزمته هو سكونية العقل العربي وكذلك سكونية اللغه الفنية بالنسبة إلى المشاهد. لذا فان ديناميكية الفن لا يمكن أن توجد إلا في قدرته على إثارة الأسئلة والتبادل الثقافي والفكري الحر مع الآخر.
لكن جانب من الثقافة العربية والإسلامية الذي يؤمن بقانون المؤامرة هي التي تفرض تهميش وعزل ثقافتنا وذلك من خلال عدم خلق الديناميكية الثقافية المعاصرة والتي تعني احترام فكر الآخر الذي يجب أن نعترف بأنه أكثر تطورا فكريا وفلسفيا وثقافيا.
ـ إن تهميش وتشويه ثقافتنا العلمانية ـ الديناميكية، الرافضة للفكر السلفي والتي تؤمن بالتكامل الثقافي والحضاري مع الآخر، لا يأتي في كثير من الأحيان نتيجة للغزو الثقافي الخارجي، وإنما يأتي من غزو الأفكار ألظلامية الداخلية والالتزام بها بدون أن يتم تفكيكها ورفضها بوضوح من قبل المثقف والسلطة. وبالتأكيد فإن هذا يأتي نتيجة لهيمنة تلك الأفكار الدينية ـ السلفية التي تملك أحادية النظرة وترفض في الآن ذاته ديناميكية المعاصرة بما فيها ثقافة والآخر (أي الثقافة الغربية والأوربية).
ـ إزاء التخلف الثقافي والحضاري الذي نعيشه، نحن بحاجة إلى أن نسأل ذات السؤال المعاصر حتى وان أتانا من أوربا، مادمنا لا نعيش في قرية منعزلة بل في عالم وكون واحد، و مادامت العولمة تعني التكامل الحضاري والثقافي وليس هيمنة المراكز الكبرى وتهميش ثقافة المجتمعات الأقل حضارية. ان السؤال الفكري والفلسفي الذي يهمنا ويهم قريننا ـ الآخر في ذات الوقت هو الذي يخلق في دواخلنا القدرة على مواجهة سؤالنا المصيري المرتبط بهويتنا الثقافية.
ـ وهذا يفرض ضرورة التهجين بين الثقافة والفكر الأوربي من جانب وبين الثقافة و الذات العربية المتحررة فكريا من فكر الماضي ألسكوني والمحتوية على بذرات فكرية مهيأة لاستقبال الآخر بروح التكامل. وأيضا يعني التهجين بين التراث العربي التقدمي و الذي كان يحمل بذرة المستقبل والذي يمكن أن يمد علاقة احترام ثقافي ـ حداثي ويدخل ضمن الحداثة العربية و الأوربية المعاصرة. إذن تحتم المعاصرة والحداثة، ضرورة التهجين والتفاعل بين الفكر والثقافة الغربية مع الهوية الذاتية (الثقافة الإسلامية ـ والعربية)، وفي ذات الوقت الاختلاف والخصوصية في جوهريهما. وبالتأكيد يتم هذا من خلال التزام (النقد المزدوج) أي نقد المفاهيم الغربية والأوربية المهيمنة والاختلاف معها، وأيضا نقد الهوية الذاتية (أو ما يسمى بالأصالة، والهوية والخصوصية.. الخ) وهذا يعني الدمج الحداثي بين خصوصية الهوية الذاتية والحداثة الأوربية. وبالتأكيد فان هذا سيخلق طرحا لسؤال مصيري معاصر، و لا يتم هذا إلا بقبول فكر وثقافة الآخر.
- آخر تحديث :
التعليقات