غيلان الدمشقي أحد أبرز ضحايا الفكر المتبنّين لحريّة إرادة المسلم وقدرته على التحكّم بافعاله وقد آمن بفكره الخليفة عمر بن عبد العزيز -كما أسلفنا -ولكن كان هنالك قبل غيلان زمنياً وفي دمشق ايضاً دور لعمرو المقصوص الذي اُختير ليكون استاذاً لمعاوية الثاني -بن يزيد بن معاوية -لما عُرف عن المقصوص من علمٍ وورعٍ وتديّن. وتذكر الروايات ان معاوية اصبح قدرياً بفعل تأثير استاذه، وحين جنح الامويون الى مبايعة معاوية الثاني بعد وفاة والده بالتوارث -كما رسّخها جده معاوية مؤسس دولة بني أميّة -، سأل معاوية الثاني عمرو المقصوص طلباً للإستشارة، فأجابه عمرو: اما ان تعدل واما ان تعتزل!!
فرأى معاوية ان قرار الإعتزال أيسر من العدل في حين قبوله الخلافة والحكم، فخطب في أهالي دمشق قائلاً: (إنّا قد بُلينا بكم وابتليتم بنا، وإنّ جدي معاوية نازع من كان أولى منه وأحق، فركب منه ما تعلمون حتى صار مرتهناً بعمله. ثم تقلّده أبي، ولقد كان غير خليقٍ به، فركب ردعه واستحسن خطأه. لا أحبّ أن ألقى الله بتبعاتكم، فشأنكم وأمركم، ولّوه من شئتم. فوالله لئن كانت الخلافة مغنماً، لقد أصبنا منها حظاً. وان كانت شراً، فحسب آل سفيان ما أصابوا منها)*
وهنا نحن نتسائل: هل هنالك فيمن يدّعون التديّن والايمان والسلفية والتكفير والإفتاء من حولنا من ابسط موظفٍ في البلدية او في دوائر الاوقاف الى حكّامنا الابديين وانتهاءاً بالمتسوّلين على أبواب السفارات، هل فيهم شئ من غيلان او عمرو، حيث لايمكن ان نقول هل من بين حكّامنا من سيفعل كما فعل عمر بن عبد العزيز او معاوية الثاني؟؟؟ وهذا ليس غرضنا هنا.
توفي معاوية الثاني بعد اربعين يوماً من اعتزاله الخلافة، كما اعتزل الناس ايضاً. فسارع الامويون الى الإمساك بعمرو واتهموه بأن افكاره هي التي أفسدت معاوية الثاني، فحفروا له قبراً او حفرةً ودفنوه حيّاً.
قمع الامويون بقسوةٍ كل من يعلن فكرة حرية ارادة الانسان -مذهب القدريين -حتّى شرّعوا أمراً غريباً عنوانه (القتل على النوايا) اي على نيّة المجاهرة بالقدريّة! وهو أوّل اكتشاف عربي اسلامي أموي في التاريخ يضاف الى الفساد المالي والاداري وموهبة سفك الدماء وهوايات الغدر والقتل بدسّ السُم في الطعام وغير ذلك!
فما الذي يمنع حكّامنا الابديين من تطوير هذه المواهب الى إبادةٍ جماعية وبفترةٍ قياسية يلقون فيها المعارضين في احواض أسيد مثلاً او في مقبرةٍ تتسع لمئات الاشخاص كما حصل ويحصل؟ وما الذي يمنع رئيس فذ جداً كصدام حسين من ان يحكم بالموت -كما صرّح هو بذلك -على محاوريه من نظرات عيونهم، فيقرأ نواياهم ومن ثم يصدر الحكم؟!
صحيح ان بن ابي سفيان أوّل من أعلن (ان الله جعله إماماً وولاّه الأمر) وعلى المسلمين الرضوخ، ووظّف مذهب الجبريّة لترسيخ حكم بني اميّة، لكن السلطة الاموية وجهازها الاعلامي الفقهي سحقت كل من يقترب بطروحاته الفكرية من معارضتها، وفسّرته سياسياً بالمسّ بعرش الخلافة. ومع ذلك انتشر مذهب اهل القدر بين علماء المسلمين وعامّتهم في الكوفة والبصرة ومكة والمدينة ودمشق وسواها، وعُمم موقف معارضة حكم الامويين الذين نصّبوا أنفسهم حماة للدين وللدنيا في مملكةٍ وراثية مطلقة فرضوها فرضاً باسم قضاء الله وقدره ووجدوا في الجبريّة مايخدم طموحاتهم السياسية، فحاربوا كل من يجاهر بحريّة العقل البشري وإرادته الذاتية -اي انهم وضعوا الشكل الديني في الواجهة لصراعٍ هو في جوهره سياسي اجتماعي-.
فصارت تهمة الإلحاد تُقرن بكل مطالبٍ بحريّته في الاختيار والعمل. فقتل معبد الجهني -اول القدريين في البصرة، وهو من رواة الحديث الموثوقين من طبقة التابعين، وعُرف عنه ايمانه وتديّنه -قتله الحجّاج بن يوسف بعد ان عذبه بأمر من عبد الملك بن مروان، وقيل صلبه -وكان معبد والقاضي عطاء بن يسار يأتيان الى الحسن البصري فيقولان له: (ان هؤلاء -اي الامويين -سيسفكون الدماء ويقولون إنما تجري اعمالنا على قدر الله)، فقال الحسن: كذب أعداء الله. **
هذه الشكوى ndash; السؤال لا تبحث عن إجابة بمقدار ماهي تشخيص لخلل واقعي وفكري كبيرين. وان خيار المعارضة مسنود بمضامين اجتماعية وسياسية وفكرية منحازة الى مصالح السواد الاعظم من المسلمين كمحاولة جادة للفكاك من سلطة مستبدّة تحكم باسم الجبريّة الالهية وقضاء الله وقدره كتبرير فكري لما يقترفونه على الارض بحق البلاد والعباد.
ورد في رسالة غيلان الدمشقي الى الخليفة عمر بن عبد العزيز هذا المقطع: (أبصرت ياعمر. . وما كدت أعلم ياعمر أنّك أدركت من الإسلام خلفاً بالياً ورسماً عافياً، فيا ميّت بين الاموات، لاترى أثراً فتتبع ولا تسمع صوتاً فتنتفع، طفئ أمر السنّة وظهرت البدعة. اُخيفَ العالِم فلا يتكلّم ولا يعطى الجاهل فيسأل، وربما نجحت الأمّة بالإمام وربما هلكت بالإمام، فانظر أي الإمامين أنت، فأنّه تعالى يقول (وجعلناهم أئمةً يَهدُونَ بأمرنا)، فهذا إمام هدىً ومن اتّبعه شريكان، واما الآخر فقال تعالى (وجعلناهم أئمةً يَدعُونَ الى النار ويوم القيامة لاينصرون)، ولن تجد داعياً يقول: تعالوا الى النار ndash; اذ لا يتبعه أحد ndash; ولكنّ الدعاة الى النار هم الدعاة الى معاصي الله فهل وجدت ياعمر حكيماً يُعيب ما يصنع او يصنع ما يعيب او يعذب على ما قضى ويقضي على ما يعذب عليه، ام هل وجدت رشيداً يدعو الى الهدى ثم يضلّ عنه، ام هل وجدت رحيماً يكلّف العباد فوق الطاقة، او يعذبهم على الطاعة ،ام هل وجدت عدلاً يحمل الناس على الظلم والتظالم وهل وجدت صادقاً يحمل الناس على الكذب او التكاذب بينهم؟
كفى ببيان هذا بياناً، وبالعمى عنه عمىً) ***.
هذا الخطاب وسواه لاصحاب حريّة الإرادة والمستمد من آيات القرآن هو بمثابة الحافز الفكري لمنهجهم في البحث عن العدالة والحق والمساواة، وهو التبرير النظري لمعنى العدل الإلهي ليتحوّلوا به من المفهوم الغيبي و الظاهري الذي حاول الامويون تجييره حسب أهوائهم الى المفهوم الدنيوي الانساني على الارض والذي يعنى به كافة المسلمين.
أوجد القدريون على أرض الواقع أبرز وأوسع معارضة شعبية ممنهجة خارجة من صلب النصوص الدينية الاسلامية، وهم في شأن الصراع الاجتماعي والسياسي دعاة حق وحريّة وتوحيد أصيل، شأنهم شأن المعتزلة، وما التسميتين ndash; القدريّة والمعتزلة ndash; سوى تهمتين أطلقهما الأمويون بقصد الإساءة والتشويه بخصومٍ سياسيين، في الوقت الذي يصفهم به كل باحثٍ في هذه الظاهرة الفكرية بدعاة التنوير أو دعاة حرية الفكر وهم نتاج حركة عظيمة من نتاجات العقل العربي، حيث وسّعوا آفاق المعرفة الدينية بإدخالهم دور العقل فيها بعد ان كان مقصيّاً وبإصرار عن هذه المعرفة.

صعوبة التوفيق تعني حتميّة التصادم :
ان مسألة دور عقل الانسان وإرادته في الفعل والتمييز والفصل جاء كضرورة تاريخية واجتماعية وسياسية في تطور مذهب العقائد الاسلامية بالاضافة الى مؤثّرات الديانات والحضارات المجاورة التي بحثت في قضايا إرادة الانسان وإرادة الله.
فتبنّى اهل القدر رؤية عقلية فلسفية اسلامية في تحليلهم للنص الديني، سرعان ما عمّقها المعتزلة وانتشرت وازدهرت في البصرة والكوفة ومن ثم مكة والمدينة ودمشق والبلدان الاخرى. وفي تبريرهم المضاد لمذهب الجبرية الالهية الذي تتبنّاه السلطة الاموية، سعوا الى تحرير النصوص التي تعزّز إرادة المسلم وتؤمّن له القدرة على الفعل والثقة وتمييز محاسن الأمور من مساوئها كما في قوله تعالى: (فمن يعمل مثقال ذرةٍ خيراً يره، ومن يعمل مثقال ذرةٍ شرّاً يره)، دون تمييزٍ لأحدٍ عن أحد في هذا النص. وكذلك قوله: (الفجّار لفي جحيم)، ولتأكيد حريّة الانسان في الاختيار أستندوا الى قوله تعالى: (وقل الحق من ربّكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر) وقوله: (كلّ نفسٍ بما كسبت رهينة)، و (من اهتدى فإنما يهتدي لنفسه ومن ضلَّ فإنما يضلّ عليها)، وكل الايات الاخرى التي تعتمد على فعل الانسان ودوره الإرادي في الفصل والتمييز والخيار.
جُوبه هذا الخطاب بخطاب فقهاء القصر الأموي الجبري القاضي والحاكم بظاهر الآيات والتفسير الأحادي لها وذلك بإلغاء إرادة وحريّة المسلم، وبأن كل ما يفعله على الارض هو من عمل الله وقضائه، واستندوا بذلك الى قوله تعالى: (ختم الله على قلوبهم) و (والله خلقكم وما تعملون) و (ومن يُرد أن يُضلّه الله يجعل صدره ضيّقاً حرجاً) و (الله خالق كلّ شئ ).
وفي صعوبة التوفيق في مضامين الآيات التي تبنّاها كل مذهب، وفي الاحتكام الى إرادة الله وحكمه في كلا الخيارين، حسم القدريون الجدال بالاستناد الى الآية الرابعة من سورة ابراهيم بقوله تعالى: (فيضلّ اللهُ من يشاء ويهدي من يشاء)، اي أكّدوا خيار منهجهم الفكري العلمي في هذه الآية لتأكيد قدرة المسلم وانّ الله لا يضلّ إلاّ من اختار الضلال بإرادته، وانه تعالى قدّر ماهو واقع على الارض من انحرافٍ وبطلان او هدىً وأمربالمعروف... فحكم على الضّالين باختيارهم بالضلال وعلى المهتدين باختيارهم بالهدى.
ولا ننسى رسالة غيلان المعزّزة بالشواهد القرآنية التي ارسلها الى الخليفة عمر بن عبد العزيز بما نهى الله عنه وما أمر به، وان عدله على الارض يستوي بتحكيم قدرة المسلم على الاختيار لا ان تُشطب من إرادته مكانة العقل كما فرضها الجبريون وسلطة بني اميّة لتمرير استبدادهم وفسادهم الاجتماعي والديني والاخلاقي. فلننظر ما الذي فعله الخليفة هشام بن عبد الملك بغيلان الدمشقي وصاحبه صالح بايجاز: وضعهما في السجن لأيام ثم أمر بقطع أيديهما وأرجلهما فتوفي صالح اولاً واُخرج غيلان، فحمله احدهم الى ساحةٍ في دمشق، وخطب في الناس قائلاً: (قاتلهم الله! كم من حقّ أماتوه وكم من باطلٍ قد أحيوه وكم من ذليلٍ في دينِ اللهِ أعزّوه وكم من عزيزٍ في دين اللهِ أذلّوه؟؟).فذهب بعض الاموين ممّن سمعوا هذا الى هشام بن عبد الملك قائلين له: (قطعت يدي غيلان ورجليه وقد أطلقت لسانه.. انّه أبكى الناس ونبّههم الى ما كانوا غافلين عنه. فأرسل الخليفة اليه من يقطع لسانه) ****. وفي رواية اخرى ثمة محاكمة مفتعلة اقامها بن عبد الملك لم يجد فيها الخليفة من يفتي بتكفير غيلان سوى فقيه واحد يدعى الاوزاعي انتهت بقطع عنق غيلان.
نعني ان عملية القتل المأساوية لمعبد الجهني وغيلان وعمرو المقصوص واصحابهم جعلتهم من أبرز شهداء وضحايا الفكر القائل بحريّة الانسان وقدرته على التحكّم بافعاله وخياراته، وفي المقابل فقد قتلوا بأبشع الطرق لا بسبب خروجهم عن الدين بل لمعارضتهم حكم الامويين الجبري على المسلمين. فهل ثمّة مساجلة ممكنة بين الفكروالمقصلة؟

المصادر:
* البدء والتاريخ للمقدسي ج 6 ص 16
** الخطط المقريزية ج 2 ص 356
*** المنية والامل لأحمد بن يحيى المرتضى ص 25-26
**** نفس المصدر ص 71