كانت القاضية الكندية تنطق بكلمات واضحة بطيئة تكررها باللغتين الفرنسية والانكليزية: أيها السيدات والسادة نحن نعلم الرحلة الصعبة التي قطعتم، والأوطان الغالية التي فارقتم، طمعاً بمصير أفضل لتستقروا في هذا البلد الرائع. أيها الناس نحن فخورون بهذا الاستقطاب لثمانين انسان ينتمون الى مايزيد عن ثلاثين جنسية؟
تابعت: دخلتم هذه القاعة مهاجرين وتخرجون منها مواطنين مثلي لا أتميز عنكم بشيء. الحق أقول لكم ادخلوا هذا البلد بسلام آمنين، واعتنقوا الدين الذي به تؤمنون، وتنقلوا واعملوا في أي مكان تحبون، وادخلوه وغادروه في اللحظة التي ترغبون، تعلموا قول الحق والعمل به وفي ذلك لومة لائم لاتخشون. علموا أولادكم ذلك وعلى محاربة كل ألوان التمييز العنصري والجنسي كونوا حريصين.
في النهاية ختمت القاضية خطبتها: والآن قوموا فليسلم بعضكم على بعض فقد أصبحتم بنعمة الله إخوانا. عندها لم يتمالك معظم من في القاعة عن إمساك دموعهم مبللة بذكريات مؤلمة من جمهوريات الخوف ودياسبورا التشرد. كان أكثرهم بكاء عائلة فلسطينية. كانت الخطبة تذكر ببيعة الصحابة لرسول الله ص؟!...
هذا الكلام ليس دعاية للهجرة إليها فالناس يهرعون إليها من مشارق الأرض والمغارب بأشد من جذب المغناطيس لبرادة الحديد بين قطبين: يأس من وطن لم يبق فيه مكان للمواطنة، وأمل بوضع القدم في أرض الميعاد، يسبحون في تيار اطلنطي على ظهر مركب من ذهب، لينعموا ببلد يجمع بين سحر الطبيعة والنظام وكل الضمانات، تحتل فيه كندا الرقم واحد في العالم حسب احصائيات الأمم المتحدة على الرغم من برده الزمهرير في درجة حرارة قد تصل شتاء الى 63 تحت الصفر، لايشعر مواطنوه بذلك البرد الذي يضرب مفاصل المواطنين العرب في شتاء الشرق الأوسط الدافيء ؛ فالحضارة كما نرى لاتعرف الجغرافيا !
لماذا يغادر الكندي بلده ويعود إليه في أي وقت يشاء وبدون تأشيرة؟ يعود هذا الى مرسوم (الحريات والحقوق) التي تسلم باليد كأول وثيقة مع تهنئته على الجنسية تتضمن حقه أن يغادر بلده كما يحلو له فالوطن بيته، ومتى يسأل الانسان وممن إذناً بمغادرة بيته أو الايواء اليه؟ أما الحدود العربية فقد تحولت الى أسوار شاهقة لسجون كبيرة تحتجز مواطناً مسكيناً ويتيماً وأسيراً؟
مامعنى تأشيرة الخروج في البلاد العربية؟ إنها مؤشر فاضح لمواطن مدان سلفاً في سجن كبير يحتاج الى تدقيق قبل مغادرة محبسه للتأكد أنه غير مطلوب للعدالة بدون عدالة، برسوم تقصم الظهر لدول تئن تحت العجز المالي تمد يدها الى آخر قرش من جيب مواطن مفلس ! فمن 22 دولة عربية يتراجع النمو في 17 منها في وقت يتضاعف فيه السكان مرتين حسب كتاب (فخ العولمة) في مطلع ألفية لامكان فيه للعرب حسب شهادة المؤرخ باول كينيدي.. إنها أجراس انذار مفزعة لاناس فقدوا حاسة السمع؟
عند بوابات الحدود العربية تطل سحنة موظف عابس كاره لعمله ؛ فيتسارع نبض المواطن العربي مع تسليم الجواز، ويجف ريقه متظاهراً بالابتسام، في سحنة صفراء لاتسر المستقبلين، ثم تبلغ القلوب الحناجر في انتظار عودة الجواز، أو تدور الأعين كالذي يغشى عليه من الموت عندما يتأخر الجواز فلعل المواطن مطلوب لجهة أمنية؟
مامعنى تسرب الكفاءات وهرب رؤوس الأموال ونزيف الأدمغة وصدور أفضل الكتب والمجلات تطبع بالحرف العربي في مكان لايوجد فيها ناطق واحد باللسان العربي؟! إنها رواية بائسة عن وطن بلا دماغ ! فهل يمكن لكائن ممسوخ من هذا النوع أن يعيش؟
يقول المثل القوقازي: من يفقد وطنه يفقد كل شيء، بدون حبل سري ومشيمة ثقافية، يمشي فوق أرض بدون جاذبية فقد التوازن الخلاَّق، مكباً هائماً على وجهه، هل يستوي هو ومن يمشي سوياً على صراط مستقيم؟ في ورطة من نوع محير فلا الشرق يعجبه ولا الغرب يسعده يعيش نفسياً في الأرض التي لا اسم لها؟
مامعنى تدفق المهاجرين العرب الى كل أصقاع الأرض يشكلون 10% من سكان مونتريال في كندا وهم لايعلمون؟ يحلمون بجنة أرضية جديدة، بعد أن غادروا وطن تحول فيه بعضهم لبعض عدو، بلجوء جوع الى السويد وألمانيا، أو الاستعداد للزواج من أي فتاة أجنبية للقفز معها الى المجهول هرباً من جمهوريات الخوف والجوع والبطالة، أو شراء جوازات سفر من الدومينيكان والارجنتين بعشرات الآلاف من الدولارات بدون تواجد، في تحصيل جنسيات لعائلاتهم يأمنون بها على أنفسهم في الشرق المنكود ؛ لعلها تنفع يوماً إذا زلزلت الأرض زلزالها؟
لو فتحت السفارة الكندية أبوابها لهجرة مفتوحة بدون شروط في أي عاصمة عربية لزحف اليها كل انسان بين 16 والـ 60 عاماً كأنهم جراد منتشر مهطعين الى الداع يقولون هذه فرصة لاتفوت؟ في فرار من سفينة تهوي في رحلة موجعة الى قاع المحيط بأسرع من غرق التيتانيك؟
المواطن العربي لايتمتع اليوم بأي حصانة بما فيها الحاكم على رأس الهرم الاجتماعي، فلا ضمانة لأي انسان أو شيء في أي مكان أو زمان، في احساس بالدوار، بدون أمل في معرفة الاتجاهات، معرضاً لهجوم أي حيوان ضاري، في غابة تتشابك فيها الأكواع، في وطن تفوح منه رائحة القلة والذلة ويتنفس فيه الانسان مع جزيئات الهواء أجهزة الأمن؟ مواطن بلا وطن، ليس عنده قوت يومه، غير آمنٍ على عياله، لايعرف ماذا يحمل له المستقبل الأسود من هموم، خارج إحداثيات التاريخ والجغرافيا، يعيش ثقافة ميتة ودعت نبض الحياة، يعيش كي لايعيش، لايمر يوم الا والذي بعده شر منه، في رحلة تردي لاتعرف التوقف، في حجم مشاكل أكبر من التطويق فوق مستوى من بيده القرار والحل، يتخرج فيه الطالب الجامعي بدون أمل في مرتب يوفر له سقفاً يظله، أو يمنحه إمكانية بناء عائلة ينجب فيها أطفالاً سعداء يثقون بأنفسهم وبالحياة، في مجتمع يمشي باتجاه كارثة محققة !! لقد أصبح وضعنا مهزلةً للعالمين، في حجم النكتة بدون أن يضحك أحد. أفمن هذا الحديث تعجبون وتضحكون ولاتبكون؟
لقد عاش جيلنا كلاً من الوهم القومي الثوري وحمى الحركات الاسلامية وانتهى الى افلاس الاثنين، في مؤشرات حادة أن حالة المريض تزداد سوءاً واختلاطاً بدون دلائل انفراج في الأزمة، لينشأ جيل (الصدمة) أخطر مافيه شعوره أن العلم لاقيمة له ولايدفع مسغبة الجوع، في وقت تدفع فيه أرحام الجامعات شباباً عاطلين الى شوارع مكتظة بالفقراء
ليس غريباً أن ينشأ تيار أشد من المكنسة الكهربية يشفط كل العقول والأموال في تيار أطلسي أقوى من ظاهرة النينو باتجاه ديموقراطيات تضخ أكسجين الحياة وتوديع ثقافة استبداد تعيش عصر بيعة الخليفة العباسي الواثق بالله لشعب ولد أخرساً يوم ولد ويوم يموت ويوم يبعث حياً؟ من يستطيع الهرب من الأوضاع يبحث عن الخلاص الفردي بين ركاب سفينة يتخاطفون أطواق النجاة يلقي أحدهم بنفسه في اليم وهو مليم، فإن لم يهلك هو ماتت ذراريه في بطن الحوت الرأسمالي مالم يكن من قوم يونس، أو غرق في لجج ثقافة غربية تضرب سفينتنا الغارقة بموج كالجبال. ليس أمامنا للنجاة في طوفان الحداثة الا الانطلاق بمشروع بناء سفينة نوح من الفكر جديدة ولكن المشكلة ببساطة أن نوح لايعيش بين ظهرانينا، ونواجه مشاكلنا بخطب وأدعية من العصر المملوكي ودول الطوائف، وعقولنا مبرمجة في متاهات فئرات التجربة في قبضة مسلمات لافكاك منها، نحتاج الى ولادة جديدة من رحم امرأة عجوز عقيم في انتظار استنساخ أسطوري.
لقد تحول الوطن في احسن أحواله في عين المهاجر الى وقت قصير للاستجمام مع كل مغامرة الدخول المحفوفة بالخطر، للتمتع بطقس جميل لافضل فيه للجهد البشري، واستعادة ذكريات الطفولة، يعيش الفرد أجمل لحظاته في الطائرة الى الوطن وعند الخروج منه، عندما يكتشف بمرارة أنه لايستحق أكثر من إجازة فلقد كان فيما سبق وطناً، قد يتمنى أن يدفن فيه ولكن لا أن يعيش فيه بحال؟!
اجتمعت بعائلة مهاجرة كندية أنفقت عليهما حكومتهما بسخاء ورجعا بأعظم شهادة جامعية، فلما رجعا الى الوطن كانت المفاجأة أكبر من الصاعقة ؛ فغاردا البلد بعد عدة سنوات في حالة ذهول قد تبخرت من رؤوسهم الأحلام الوردية، وتركا خلفهما الشهادات الكبيرة للوطن ؛ فهما يتكسبان عيشهما اليوم في محل لبيع ملابس الأطفال، في شهادة صاعقة عن مصير العلم في الوطن العربي الكبير.