لو سُئِل رئيس أية دولة شرق أوسطية وهو يفكر بتجديد ترشيحه لولاية دستورية (أو فوق دستورية) جديدة: لماذا ترشح نفسك لولاية رئاسية جديدة؟
سيكون الجواب، كالصفعة التي تعيد الغائب إلى وعيه، كالآتي: quot;لأن الشعب يريدني... أنا هو خيار الوطن، أنا هو صوت الشعب... وشعبي العظيم هو الصوت الذي يرشحني، ويدعمني، ويوصلني إلى سدة الحكم والرئاسة... أنا الشعب والشعب هو أنا... أنا هو الوطن والوطن هو أنا... نحن لبعضنا البعض، وبعضنا البعض هو نحنquot;!!!
ألم يقل ديكتاتور quot;عراق الخوفquot;، الأوّل، مراراً، بأن quot;شعبه العظيم يبصم له بالعشرة، ويفديه بروحه، ودمه، وأولاده، وحريمه، وبكل ما يملكه وما لا يملكه، من غالٍ ونفيسquot;؟
ألم يتحول عراق الديكتاتور quot;العظيمquot;، في ظل هذه quot;الفدية العظيمةquot; وشعارها الأعظم (بالروح بالدم نفديك يا صدام)، طيلة سنوات quot;الخوف العظيمquot;، إلى أكبر جمهوريةٍ quot;للبطش والقتل والدم المباحquot;، في عموم الشرق الحديث؟
ألم تبقَ نتائج الإستفتاء الشعبي، على تولي الأسد الأب لولايات دستورية متعاقبة (1971، 1978، 1985، 1992، 1999)، هي ال quot;نعم الأبدية الكبيرة quot; ذاتها(99,99) أو دونها بشحطة، منذ quot;انقلابه الأبيضquot; سنة 1970 وحتى ساعة مماته على كرسي الرئاسة في 10 يونيو/حزيران 2000؟
أليس حسني مبارك هو الرئيس quot;المنتخبquot;، لخمس فترات متتالية في أعوام 1987، 1993، 1999، 2005، على سنة الدستور المصري وقانونه، لا لشيء، سوى لأن quot;الشعب ومصر عاوزين كيدهquot;؟
كم مرة أعلن علي عبدالله صالح الذي تولى رئاسة الجمهورية اليمنية منذ 1990، عن نيته في عدم الترشح لإنتخابات 22 سبتمبر 2006، ثم ماذا كانت النتيجة؟
بعد تصريحاته النارية عن عدم نيته في الترشح لمنصب الرئاسة، والتي سميت من جهة المعارضة بquot;مسرحية الحزب الحاكمquot;، أعلن صالح، فجأةً، وعلى حين غرة، عدوله عن قرار التنحي، وذلك quot;نزولاً عند رغبة الجمهور اليمني الذي لم يغادر الشارع، حباً في رئيسهquot;، quot;الضروري جداًquot;، بحسب أبواق السلطة، وماكينات إعلامها.
هذه فقط بضع نماذج (وما أكثرها) من quot;ديكتاتورية الكرسيquot; في بلادٍ شرق أوسطية، يدعي أهلها الرؤساء، حكم الدستور والقانون، وحكم الأغلبية، وحكم الإنتخابات، وحكم الجمهورية.
إذا كان هذا هو حال الحكم لا بل المُلك، في quot;جمهوريات الشرق الملكيةquot;، فما بالك بالمتبقي من الشرق المملوك لكأنه خُلق ببلاده الواسعة، منذ أول الأرض وأول العباد، لناسٍ دون سواهم، أو لقبيلةٍ، أو عشيرةٍ، أو عائلةٍ دون غيرها من قبائل، وعشائر، وعوائل الله المقدسة!

الكرد، عبر تاريخهم الصعب والطويل، عانوا وجبالهم، الأمرّين من مُلك هذه الديكتاتوريات، في شمال كردستانهم وجنوبها، في شرقها كما في غربها.
الكرد في غالبيتهم الساحقة (الشماليون والشرقيون والغربيون)، لا يزالون مستغرقون في ذات الديكتاتورية، وذات المعاناة، وذات الإقصاء، وذات الحرمان من كافة حقوقهم القومية والتحت ـ قومية: هم ممنوعون، مهمشون، مبعدون، متهمون، معدمون، لاجغرافيا ترحمهم (سوى الجبال)، لا تاريخ يستوعب أيامهم، ولا دفاتر تدون لذاكرتهم الثقيلة.
في الجنوب، اختلفت الجفرافيا، كما اختلف التاريخ، كردياً، منذ انتفاضة الربيع 1991. منذ ذلك التاريخ المفصلي للآن، والكرد يحكمون أنفسهم بأنفسهم. منذ تلك الجغرافيا المفصلية حتى الساعة، وللكرد كردستانهم الخاصة بأحلامهم: لهم عَلَمهم الخاص، ورئيسهم الخاص، وبرلمانهم الخاص، ولغتهم وحكومتهم الخاصتين، ومخابراتهم الخاصة، وبيشمركتهم الخاصّين...الخ.
المقلق في المُلك الكردي، راهناً، والذي يبسط سيطرته على غالبية مساحة كردستان الجنوبية، هو أن الأحزاب quot;المالكةquot; لكردستان، تحولت في نسخها الكردية، إلى أحزاب قاب قوسين أو أدنى من شمولية الحكم الواحد، والقائد الواحد والديكتاتورية الواحدة.
في آخر مسحٍ أجراه راديو نوا (08.07.07)، تبين أن غالبية سكان كردستان (84,9%) يريدون نيجيرفان بارزاني، رئيساً لحكومة الإقليم.هذا ما صرح به كورده حسن، مدير quot;راديو نواquot; لوكالة أنباء بيامنير المقرّبة من حزب البارزاني.
ولكن السؤال الذي يقفز إلى الذهن، ههنا، هو: ما الجدوى من هذا المسح quot;الماسح للجوخquot;، طالما أن كلّ المُلك في كردستان، قد جاء عبر الإتفاق والمناصفة الحزبية (فيفتي فيفتي) بين الحزبين الرئسيين المالكَين لكردستان الديمقراطي الكردستاني ب د ك amp; الإتحاد الوطني الكردستاني ي ن ك؟
ما الجدوى من هكذا مسوحٍ عنترية، يضحك المقيمون عليها، على ذقون الناس، طالما أن الحكمَ، كردياً، في الإقليم، قائمٌ أصلاً على تبادل الأدوار والكراسي؟
هل نسي صاحب المسح/الشطح، الذي مرّر من خلاله الغالبية، لمن أراد له أن يكون رئيساً باقياً، لحكومة كردستان القادمة، أن البند الثالث من الإتفاقية التاريخية (22 يناير/كانون الثاني 2006) لتوحيد الإدارتين الكرديتين (السليمانية وهولير)، هكذا فصّل عملية تبادل الكراسي بين الحزبين الحاكمَين لكردستان، وهكذا أراد للأدوار أن تتبدّل وتكون:
quot;يكون رئيس البرلمان من الإتحاد الكردستاني ورئيس مجلس الوزراء من الحزب الديمقراطي الكردستاني لحين الإنتخابات المقبلة لبرلمان كردستانفي نهاية 2007. وسيشترك الحزبان في قائمة موحدة ومتساوية في الإنتخابات القادمة، وعندها سيسند منصب رئيس البرلمان إلى الإتحاد الوطني، ورئيس مجلس الوزراء إلى الديمقراطي الكردستاني ولمدة سنتين. وبعدها يتبادل الجانبان منصبي رئيس البرلمان ورئيس مجلس الوزراء. وفي حال عدم إجراء الإنتخابات البرلمانية نهاية سنة 2007، أو توقع تأجيلها، فإن عملية تبادل المنصبين ستتم أيضاً بين الجانبينquot;.
ما العقل في هكذا مسوح استعراضية، طالما أن الكلمة الفصل هي للحزب، لا للشعب، وللمؤسسات الحزبية ودكاكينه، قبل المؤسسات الدستورية؟ ما الحكمة من هكذا مسوحٍ مجانية، إذا كان أصحاب الرتب الحزبية العليا، هم أصلاً، أهل الحل والربط، أولاً وأخيراً، في كل ما يتعلق بمصير البلاد والعباد؟ أليس الحزب هو كل الدولة ومؤسساتها، والعكس صحيح أيضاً؟
ولو سأل أي مواطن بسيط من quot;كردستان التحتquot;، quot;أكراده الفوقيينquot; في quot;كردستان الفوق quot;: ماذا حققتم لquot;أكرادكم التحتيينquot; أبداً، طيلة سنوات ملككم السبعة عشر؟ ماذا حققتم من خبزٍ وقانونٍ وحرية لهم؟
أيّ جوابٍ سيتوقعه التحت الكردي من فوقه؟
الأرقام والوقائع على الأرض، في كردستان الراهنة، تقول، أن لا خبز يعلو فوق خبز الحزب (المالك بالطبع)، ولا قانون يكبر على قانون الحزب، كما أن لا حرية تفوق حرية الحزب. ومظاهر الفساد المستشري في كافة مفاصل الحزب الذي هو كل الدولة، هي خير شاهدٍ، على أن لا خبز ولا قانون ولا حرية، في كردستان العراق، خارج خبز وقانون وحرية الحزب.
كل الحكم في كردستان، هو حكم حزبي أكيد.
كل القرار في كردستان، يمر عبر فلتر حزبي لا مفر منه.
كل الإتفاق في كردستان، هو عبارة عن صفقة حزبية، بين حيتانه، لا أكثر ولا أقل.
كل الأمن في كردستان، هو قرار حزبي من الرأس الكبير إلى الرأس الصغير.
كل منتفعي كردستان، هم حزبيون أو شبه حزبيين، بهذه الرتبة أو تلك.
وعليه، فإن كردستان هي الحزب، والحزب هو كردستان.
في تصريحٍ سابق صدر عن حكومة كردستان العراق، قيل أن quot;أكثر من 75% من ميزانيتها، تذهب كرواتب إلى موظفيهاquot;. والمطّلع على شئون كردستان العراق، يعلم أن موظفي الدولة هؤلاء، لا يقبضون الرواتب، بإعتبارهم ينتجون الدولة، بل كرجالٍ أوفياء، ينتجون الحزب ومشتقاته. هم ينعمون بالمال العام، لأنهم أنصار حزبيون، يخدمون الحزب الذي يساوي الوطن، أو يكبره، حسب فتوى العرض و الطلب.
على صعيدٍ آخر، وفي أول ردة فعلٍ رسمية، على التقرير الأخير لمنظمة مراقبة حقوق الإنسان هيومان رايتس ووتش، الذي اتهم السلطات الكردية ب quot;انتهاك حقوق الإنسانquot;، كتب د. برهم صالح(القيادي البارز في الإتحاد الوطني الكردستاني) نائب رئيس الوزراء العراقي في إيلاف(9 يوليو 2007)، تحت عنوان quot;وخزة لكنها مؤلمةquot;: quot; للأسف برزت في الفترة الأخيرة بعض المظاهر السلبية التي أضعفت ثقة المواطن الكردي بسلطته، وتعتبر تراجعا من تلك السلطة عن إلتزاماتها تجاه تحقيق الحريات وحقوق المواطنين، وهي مظاهر شوهت صورة كردستان أمام الرأي العام العالمي، وقد تفقد لاحقا التعاطف الدولي مع المطالب المشروعة للشعب الكردي،فإنتهاكات حقوق الإنسان والفسادين الإداري والإقتصادي في مفاصل إدارة الإقليم وعدم الإلتزام بمعايير العدالة، هي بمجملها عناوين عريضة لتلك المظاهر السلبية... إن الإنتقادات التي ترد من منظمات دولية حول إنتهاكات حقوق الإنسان الكردي، وإزدياد حالات العنف خصوصا ضد المرأة، يتزامن مع ظاهرة أخرى أكثر خطورة في الإقليم، وهي ظاهرة الفساد وإحتكار السوق من قبل البعض، وهاتان الصورتان تشوهان سمعة الشعب الكردستاني وتجربتهquot;
وكجزءٍ من المساهمة في طرح الحل، كردياً، من موقعه كمسؤول رفيع المستوى، دعا صالح في مقاله، إلى quot;إلغاء جميع المؤسسات الأمنية الحزبية، وفي مقدمتها الباراستن وزانياري، وضرورة توحيدها في إطار مؤسسة دستورية وقانونية خاضعة للرقابةquot;.
يبدو أنّ صراحة د. صالح هذه، وجرأته في الطرح، لم تروق للبعض من أهل الملك والسلطة، في كردستان العراق، وهو الأمر الذي، دفع بهم وغيرهم من منتفعي كردستان، إلى الرد المضاد على انتقادات صالح العنيفة والمسؤولة في آن، على السلطات الكردية (المتحزبة حتى النخاع) في الإقليم.
الظاهر، أن د. صالح وغيره من البعض القليل النادر جداً (على العكس من البعض الكثير المتوفر) من النخب الكردية الحاكمة، قد فهموا لعبة الديمقراطية، وفنون التعاطي مع مفردات الغرب المفتوح، كالحرية في معناها الأشمل، وحكم القانون، والشفافية، والمحاسبة، والتعددية الحزبية، والمؤسساتية، والدولة المدنية...الخ. وهو الأمر الذي يزعج آخرين اعتادوا (بعد أن تبدلت أدوارهم من رتبة الضحية إلى رتبة الجلاد) أن يقلدوا الديكتاتور في صناعة الحزب والرفاق التابعين والمتبوعين، وصناعة الحكم والحكام والرعايا المحكومين، وصناعة السجون وجدران الصمت والسجانين والمسجونين، وصناعة القتل وأمراء الجلد والقتلى والضحايا المقتولين.
الديكتاتور، هو وحيد الدولة الخارج مدنية، الخارجة عن كلّ منافسةٍ أو مناطحة: هو وحيد دولة القائد الأوحد، والحزب/العشيرة الواحدة، والجريدة الواحدة، والرقم الواحد، والقانون الواحد.
يا سادة الحكومة والأحزاب والعشائر الحاكمة لكردستان المنتفعة انتفاعاً مبيناً، لا تقلدوا الديكتاتور، فزمان الديكتاتوريات والبرلمانات الورقية، والدساتير الديكورية، والمسوح quot;المسح ـ جوخيةquot;، والدول أو شبه الدول الشمولية، قد ولّى.
لا تقلدوا الديكتاتور، لأن كردستان لن تحتمل أكثر مما حملته من أشباهه وأشباحه.
لا تقلدوا الديكتاتور، في صناعة التعذيب والقتل، لأن كردستان عُذِّبت وقُتِلت بما يكفي.
لا تقلدوا الديكتاتور، لأن هؤلاء هم أكرادكم: أكراد زمان الجبال؛ زمان الهروب بالجملة والقتل بالجملة؛ زمان الأنفال؛ زمان حلبجة؛ زمان الآيات النائمة؛ وزمان الله، حين كنتم تشكونه، سواءً بسواء، ليل نهار، وأرض سماء.
هؤلاء، بسنتهم، وشيعتهم، وإيزيدييهم، وكاكائييهم، وشبكهم؛ هؤلاء، بآشورييهم، وكلدانييهم، وسريانييهم، وتركمانييهم، هم أكرادُ ولاأكراد كردستانكم، إذ قاسوا ما قاسيتموه؛ وعانوا ما عانيتموه؛ وحلموا بما حلمتموه.
الديكتاتور، هو واحد: في الجغرافيا؛ في التاريخ؛ في السياسة؛ في المال؛ في السبب وفي النتيجة؛ في مبتدأ الحكم وفي خبره؛ في رأس الدولة وفي قدمها؛ في الأول وفي الآخر، الديكتاتور هو واحد.
الديكتاتور، هو الديكتاتور، سواء كان من فصيلة االأنا/الذات، أم من فصيلة الهو/الآخر؛ في الداخل أم في الخارج، في التحت أم في الفوق؛ في الشرق أم في الغرب.
الديكتاتور، هو واحد لا شريك له، لا يليق بكردستان الكثيرة، ولسانها الكثير، وموزاييكها الكثير.
الديكتاتور واحد، وإنما كردستان هي كثيرة.
الديكتاتور مفرد، أما كردستان، فهي جمع.


[email protected]