لا أعتقد أن أحدا يملك ضميرا إنسانيا غمرته الفرحة وهو يشاهد هذه المواجهات المسلحة، بين عناصر الجيش الباكستاني والمعتصمين في المسجد الأحمر الباكستاني من نساء وأطفال ورجال من مختلف الأعمار،والنتيجة التي انتهت إليها تلك المواجهات مئات القتلى من الجانبين بشكل وكأنهم كانوا في مواجهة عسكرية مع جيش معاد بدليل أن الحصار والمواجهات استمرت أكثر من إسبوع، استعمل فيها الطرفان أنواعا عديدة من الأسلحة، ليس غريبا أن تكون بحوزة الجيش الباكستاني ولكن الغريب المدهش كيف حصل المعتصمون في المسجد على هذه الأسلحة وهم طلاب مدرسة و ذويهم ومعلميهم؟ ومن أدخل النساء والأطفال للمسجد ليستعملوا كدروع بشرية تحول دون إخلائهم أو اقتحام الجيش للمسجد.
هذه الأسئلة ليس من السهل الإجابة عليها دون تذكر بعض الحقائق الخاصة بنمو الحركات الأصولية الإسلامية في باكستان ضمن مناخ سهّل على المخابرات العسكرية الباكستانية في نهاية التسعينات إنشاء وصناعة حركة (طالبان) من طلاب المعاهد الدينية الأفغان، وتصديرهم برئاسة الملا محمد عمر للاستيلاء على السلطة في أفغانستان من أمراء الحرب الذين بدأوا حروبهم المحلية بعد دحر الاحتلال السوفييتي من أفغانستان، وسهّل مهمة الطرفين (المخابرات العسكرية الباكستانية و طالبان) الحدود المشتركة والعلاقات القبلية من خلال وجود حوالي مليوني لاجىء أفغاني في باكستان، وحسب الأدوار المرسومة والمطلوبة إقليميا ودوليا ساعدت باكستان الولايات المتحدة في إطاحتها بنظام طالبان الذي أصبح قبل سقوطه خطرا على نظام برويز مشرف العسكري من خلال تزمت نظام طالبان الديني بشكل ظلامي متعصب، وجد صدى له في الجماعات الدينية الباكستانية الأصولية التي ترغب في إقامة خلافة إسلامية، وهي في هذا الجانب رغم تعاطفها مع طالبان إلا أنها تتصادم معها، من زاوية عدم اعترافها بأهلية الملا محمد عمر كأمير للمؤمنين كما نصّب نفسه، ليس في أفغانستان فقط ولكن لكافة المؤمنين في العالم أي مليارا وأربعمائة مليون من المسلمين، إلى حد أن بعض أمراء هذه الجماعات ذكر أن الملا محمد عمر (أعور) مصاب في أحد عينيه وهذا لا يؤهله حسب الشريعة أن يكون خليفة أو أميرا للمؤمنين.
ضمن هذا السعي الدؤوب لدى هذه الجماعات الإسلامية الباكستانية الأصولية للوصول للسلطة، زادت من انشائها للمعاهد والمدارس الدينية التي تقدر بالمئات، فارضة سيطرة لا مثيل لها على المساجد (الجوامع) بحيث أصبح الجامع مؤسسة مستقلة ليس للصلاة والعبادة فقط، وهذا ما يفسر وجود كل هذه الأسلحة بأنواعها المختلفة في المسجد الأحمر، وهذا العدد الكبير من البشر داخل المسجد، إذ بلغ عدد الذين سلّموا أنفسهم قبل الاقتحام الأخير للمسجد 1300 شخص رغم تهديدات مسؤولي المسجد لهم إن هربوا أو سلموا أنفسهم، وقد تأكد استعمالهم للأطفال والنساء كدروع بشرية في مواجهة الجيش من خلال ما رواه الطفل محمد جواد (13) عاما بعد أن تمكن من الهرب من خلال فتحة في جدار جامعة quot; حفصة quot; التابعة للمسجد، إذ أكدّ أن نائب مدير الجامعة عبد الرشيد غازي ومن معه يمنعون الجميع بمن فيهم الأطفال والنساء من الخروج أو تسليم أنفسهم، وأبرز ذلك الطفل وثيقة خطية منحته إياها إدارة الجامعة تفيد (دخوله الجنة بعد الشهادة)، في حين أن شقيق عبد الرشيد غازي حاول الهروب من المسجد مستعملا نقابا لمرأة، إذ يبدو أنه لم يكن يرغب في الشهادة ودخول الجنة وفضّل الوقوع في قبضة الجيش الباكستاني، رغم أن هذا الشقيق الملا (عبد العزيز) هو إمام الجامع، فكيف يقبل الهروب متخفيا بنقاب وسط مجموعة من النساء المنقبات؟ من سرق الجامع؟ وأين ذهب يوم الجمعة؟
إن الدرس المهم لما جرى في المسجد الأحمر في مدينة إسلام أباد الباكستانية، يعيدنا إلى التساؤل المهم الذي طرحه المفكر الليبي الصادق النيهوم (توفي في مدينة جينيف عام 1994)، في كتابه المشهور (الإسلام في الأسر: من سرق الجامع؟ و أين ذهب يوم الجمعة؟) الذي صدر عام 1991 عن دار الريس للنشر في لندن. في هذا الكتاب درس الصادق النيهوم حالة الأسر التي وقع فيها الإسلام في يد هذه الجماعات وهؤلاء الشيوخ حيث حرفوه عن مساره الإنساني والأخلاقي لخدمة أغراض فئوية و تنظيمية، باحثا عن وسائل (استعادة نظام الجامع وتطوير خطبة الجمعة من إلقاء للوعظ إلى مؤتمر اجتماعي تشارك فيه الأمة، ويعيد إلى المواطن حقه المسلوب في الإشراف على إصدار القوانين، ومراقبة أداء الإدارة وإيجاد السلطة الجماعية البديلة عن سلطة الدولة وسلطة رجال الدين في آن واحد).
إن أحداث المسجد الأحمر وأحداث أخرى مشابهة تقول علنا: نعم إن الجامع تمت سرقته كبيت للعبادة والمشورة الجماعية بروح الإسلام الحقيقي لخدمة أغراض سياسية وتنظيمية لا علاقة لها بالدين والأمة، فما هو الهدف من هذا الاعتصام في المسجد الأحمر وتكديس هذه السلاح واستعمال الأطفال والنساء دروعا بشرية؟ هل هذه هي الطريقة الإسلامية لمواجهة نظام برويز مشرف العسكري غير الديمقراطي؟. وفي حالة تقع ضمن نفس السياق نستذكر قيام اسماعيل هنية فور رئاسته للحكومة الفلسطينية بعد يناير من عام 2006، بإلقاء خطبة الجمعة بشكل منتظم في مساجد مدينة غزة، وهل يحق له ذلك مستعملا الجامع وخطبة الجمعة لأغراض سياسية لا يجمع عليها الشعب الفلسطيني؟ وكيف سيصبح الوضع لو قام محمود عباس أو سلام فياض بتقديم خطبة الجمعة في مساجد مدينة رام الله، وحتما ستكون لأغراض ومصالح تنظيمية مناقضة لما في خطب هنية؟. وخطبة الجمعة بهذه الطريقة تجعل لكل خطيب أجندته الخاصة وهذا ما يفسر الأحداث الإجرامية البشعة في العالمين العربي والإسلامي وغالبا ما تتم باسم الإسلام وبمسميات إسلامية، فالتفجيرات والاعتداءات في المغرب العربي تتم من طرف جماعات تسمي نفسها بأسماء إسلامية، فما هي مصلحة الإسلام في قتل ما لا يقل عن مائة وخمسين ألفا من الجزائريين في السنوات الخمسة عشر الماضية؟ وما هي علاقة الإسلام أو تحرير فلسطين في تحصن إرهابيين في مخيم نهر البارد في شمال لبنان باسم فتح الإسلام؟ ما هي الخدمة التي قدّموها للإسلام وتحرير فلسطين؟. وكل الجرائم التي حدثت في حرب فتح وحماس في قطاع غزة تم تبريرها لاحقا في خطب يوم الجمعة، وأعقب ذلك تغيير اسم (تل الهوى) إلى (تل الإسلام)، وبعد الاستيلاء على بعض مقرات الأمن الوقائي وتخريبها في غزة، تمّ السجود و الصلاة لشكر الله تعالى على هذا الإنجاز الوطني، وكأن مقر الأمن الوقائي يقع في داخل دولة إسرائيل وتابع للاحتلال الإسرائيلي!!.
وهذا يطرح سؤالا عن مؤهلات الأشخاص الذين يقدمون خطبة الجمعة في غالبية الجوامع في العالم العربي والإسلامي وكافة الدول الأوربية والأمريكية، ومن خلال تجربتي الشخصية أقولها بصراحة أن نسبة لا يستهان بها من هؤلاء (الشيوخ) الذين يتصدّون لتقديم خطبة الجمعة لا يملكون أية مؤهلات سوى (اللحية الطويلة والدشداشة القصيرة)، بدليل تصديع رؤوس المصلين بمقدمات تتكرر في كل يوم جمعة لخمسة عشر دقيقة، أتحدى إن كان بعض هؤلاء الشيوخ يفهم بعض ما يرد فيها، فهم يقرأونها من ورقة مكتوبة لا علاقة لها بهموم المواطن ومشكلاته اليومية، ويضيع باقي الخطبة غالبا في الحديث عن العذاب والجنة والنار والحور العين والتحريض على قتال الكفار والنصارى الملحدين أولاد القردة والخنازير، أما حثّ المستمعين من الشباب على إكمال تعليمهم العالي والتفكير في التخصصات التي تحتاجها بلدانهم، فهذا ليس وارد في عقول غالبية هؤلاء (الشيوخ)، فهم أنفسهم لم يسعوا للتعليم والتخصص بدليل هذه الخطبة المكتوبة والمنقولة غالبا من كتب فيها خطبة لكل اسبوع، تتكرر منذ مئات السنين دون أن يستطيع أحد من المصلين أن يحتج على هذا الإمام الذي قال الرسول (ص) عن بعضهم (إن منكم منفرين)، وكم هو مؤلم ويدعو للبكاء والحزن عندما تشاهد جموع المصلين وهم يستمعون لذلك الخطيب مطأطي الرؤوس يتمايلون يمنة ويسرة مع سجعه في خطبة لا يفهمون العديد من مفرداتها سوى التخويف والهلع الذي يفوح منها.
في ظلّ هذا التدهور الذي أوقع الإسلام في أسر فئات تعمل لمصالحها الخاصة، نسأل: أين الجامع الذي سمح لمواطن عادي أن يقف ويقول لأمير المؤمنين الخليفة أبو بكر الصديق: (والله لو رأينا فيك اعوجاجا لقومناه بسيوفنا)؟. أين الجامع الذي سمح لمواطن عادي أن يحاسب أمير المؤمنين عمر بن الخطاب على أقل من متر قماش من أموال الصدقات؟. قارنوا ذلك الجامع بجامع اليوم حيث يدعو كل خطيب فيه لنصرة حاكم البلاد رئيسا أم ملكا أم أميرا على أعدائه، وهو يعرف أننا الشعوب نحن أعداؤه أي أنه يطلب من الله تعالى أن ينصره على شعوبه المظلومة من قمعه وفساده واستبداده، وهذا يعني أن الصادق النيهوم كان محقا في تساؤله: من سرق الجامع؟ وأين ذهب يوم الجمعة؟، وما يجري في بلاد العرب والمسلمين من إرهاب وقتل وتدمير حتى في داخل المساجد كما حصل في المسجد الأحمر يعيد هذه التساؤلات للواجهة، فالقادم أكثر احمرارا إن بقيّ الحال على ما هو عليه، حيث يستولي على الجامع وخطبة الجمعة في الغالب أقوام من الجهلة الظلاميين، ها نحن نعيش نتاج ثقافتهم وتربيتهم وخطبهم في أغلب أقطار العرب والمسلمين.
[email protected]