انبثق الاتحاد الوطني الكُردستاني (اوك) من الحزب الديموقراطي الكُردستاني، وانشق منه بمراحل تخللت عبر المواجهة والصِدام والاختلاف منذ أواسط الستينيات من القرن الماضي، بقيادة المنظر الراحل ابراهيم احمد وصهره السيد جلال طالباني. التيار الذي قاده الرجلان سمي بجناح المكتب السياسي، وعُرف اتباعه لاحقاً بالجلاليين مقابل الملاليين اي اتباع الزعيم الراحل ملّا مصطفى بارزاني. تعود بدايات بروز ملامح التكوين الجديد المناهض للحزب الديموقراطي الى الاختلافات العميقة بين الجناحين في ستينيات القرن الماضي.
جماعة المكتب السياسي أخذت على زعامة الحزب نهجها الخاطئ في قيادة الحزب والقضية الكُردية، كالحرب والمفاوضات والعلاقات الاقليمية والبنية الداخلية العشائرية غير الديموقراطية للحزب.
لاحقاً انشق الجناح من الحزب ولجأ الى ايران ورُفض من قبل الشاه محمد رضا بهلوي، فاضطر الجناح الى الارتماء في احضان الحكومة العراقية ومواجهة الحزب الديموقراطي عسكرياً في عام 1966 وهو العام الموسوم عند الناس في كُردستان بعام الخيانة لأن الجناح المنشق قاتل مع الحكومة العراقية ضد الحركة الكُردية بقيادة بارزاني الراحل. أضيف عام 1996 الى سجل الأعوام الخيانية في الذهن الجمعي لأهالي كُردستان بعد تبادل الأماكن بين التنظيمين، حيث تصدى هذه المرة الحزب الديموقراطي لعملية المواجهة ضد اوك بدبابات الحكومة العراقية.
استمرت العلاقة بين الجناحين متوترة بين المد والجزر الى عام 1975 حيث انهارت الثورة الكُردية باتفاق وخيم بين شاه ايران وصدام حسين تمخضت عنه بالدرجة الاولى، كنتيجة، الحرب العراقية الايرانية عام 1980 والتي ادت بشكل مباشر الى حدوث غزوة الكويت عام 1990 ومن ثم الكوارث التاريخية المتلاحقة الى يومنا الحاضر.
في ذلك العام اي 1975 شرع مسئولون في الحزب الديموقراطي بتشكيل منظمة جديدة لمواصلة الكفاح المسلح ضد النظام العراقي. البدايات التنظيرة جرت في بغداد بين مثقفين كُرد من بينهم (فاضل رسول اغتيل في فيينا 1989، وعلي عسكري قتل في كارثة هكاري الشهيرة التي نتحدث عنها لاحقاً).
بحسب كاتب كُردي (آسي رباتي) في كتابه: موقف جلال طالبني و (اوك) من الثورة الكُردية في جنوب كُردستان، كانت هناك معارضة لاشراك السيدين ابراهيم احمد وجلال طالباني في الاجتماعات الاولى في بغداد باستثناء فاضل رسول وعلي عسكري اللذين وافقا على مشاركتهما.
في دمشق عام 1975 تأسس (اوك) فعلياً بقيادة السيد جلال طالباني وضمّ ثلاثة خطوط:
1-حركة الثوريين بزعامة علي عسكري و الدكتور خالد.
2-الخط الماركسي (كومه له ي ره نجده ران) والذي كان الأقوى داخل الاتحاد. أسسه الشيخ شهاب، أعدم في سجون البعث، وتزعم هذا الخط القيادي البارز نوشيروان مصطفى امين.
3-الخط العام والذي مثل القوميين والعشائر غير المؤمنة بالنهج اليساري والتيارات المنبثقة منه. كان طالباني يتزعم هذا الخط. ومن هذه التيارات المذكورة تشكل اوك.
الاتحاد الوطني اصبح اذن منظمة سياسية وعسكرية. وفي غضون فترة عصيبة استطاع اوك تعبئة مقاتلين جدد الى صفوفه. كانت الثورة الكُردية قد انهارت لتوها بقيادة بارزاني الأب. ففي حين خلّف الإبن مسعود أباه في الزعامة، اصبح اوك يشكل الند القوي للحزب الديموقراطي الكُردستاني، في صراع دموي دام لثلاثة عقود.
وبالرغم من وجود قيادات بارزة داخل الاتحاد الوطني الا ان السيد جلال طالباني اصبح زعيما له منذ ولادة اوك والى يومنا الحاضر، على غرار زعماء العالم الثالث الذين لا يهجرون الزعامة الا بالموت او الانقلاب.
اختلف اوك عن الحزب الديموقراطي ببنيته الفكرية/الثقافية. فالتعبئة الايديولوجية، الماركسية ـ اللينينية والماوية شكلت ارضية خصبة لتوسيع قاعدة الاتحاد السياسية والتنظيمية.
وبما ان ايران كانت قد وقعت اتفاقا جديدا مع العراق، يقضي بموجبه منع الانشطة الكُردية على طول حدودها، فان سوريا اصبحت الملجأ المقصود والوحيد للاتحاد الوطني الذي تشكّل في كنف حزب البعث السوري، الذي يدين له السيد جلال طالباني،كما اقرّ بذلك اكثر من مرّة، بفضل الدعم المتواصل ضد حزب البعث في العراق، حيث كانت العداوة بينهما شديدة واستمرت كذلك تقريبا حتى سقط البعث في العراق عام 2003.
كان السيد نوشيروان مصطفى امين (الشخص الثاني داخل الاتحاد، استقال من اوك في عام 2006) يقود مجموعات صغيرة داخل سوريا لتهريب السلاح والعتاد الى داخل الحدود العراقية، عبر الممرات الجبلية الوعرة.
كان على المجموعات الاولى من الاتحاد الوطني مواجهة القوات العراقية، التركية، الايرانية فضلا عن بقايا مسلحي الحزب الديموقراطي الكُردستاني اثناء التنقل في مناطق كُردستان الحدودية، كما يروي نوشيروان في كتبه لاسيما (من على ضفاف دانوب الى خرَيناوزَنك).
بعدما أمّنت قيادة أوك دعم سوريا، اوفد طالباني مجموعة من مقاتليه ضمت 800 رجل يحملون اسلحة خفيفة، وبعضهم غير مسلح، الى سوريا عبر المثلث الحدودي بين العراق، تركيا وسوريا من اجل نقل المؤنة والعتاد من سوريا الى كُردستان. هؤلاء ابيدوا عن بكرة ابيهم بعد ان انهالت عليهم قوات متعددة عبر المثلث المذكور. الى اليوم يتهم الاتحاد الوطني، قيادة الحزب الديموقراطي بالدور الاساسي في ابادة اؤلئك الثمان مائة مقاتل. كان من بين هؤلاء قياديين بارزين مثل (علي عسكري والدكتور خالد) وكانا من مؤسسي اوك. ويقال انهما اعدما رمياً بقاذفات ألآر بي جي، بعد وقوعهما أسرى في أيادي الحزب الديموقراطي، وتحديداً بيد سامي عبدالرحمن الذي قضى نحبه في عملية ارهابية استهدفت مكتبي الحزبين في اربيل قبل عامين.
تلقى اوك ضربة قاضية بالكارثة المذكورة، لكنها لم تقض عليه. إلّا أن الحادث المذكور و مواجهات اخرى دامية بدأت ترسم طبيعة اوك التي ترسخت بالعنف وفيه، بالتلازم مع عوامل أخرى مثل:
1-العنف الايديولوجي النابع من اوهام البروليتاريا والمفهوم الثوري (العنف) في صراع الطبقات.
2- طبيعة القضية الكُردية والصراع القومي المرير في الكيانات التي اقتسمت كُردستان كتركة للميراث العثماني وهدية غربية موقوتة للكيانات الوليدة.
3-البنية العشائرية للتركيبة الكُردية في انقسامها وتشرذمها، والتي اضفت على الشخصية الكُردية لون العنف في الحياة السياسية والحزبية.
وبالطبع هناك عوامل أخرى اقتصادية واجتماعية كثيرة لعبت في الصياغة التركيبية للاتحاد الوطني والاحزاب الكُردية الأخرى.
تنامت قوات اوك في غضون الاعوام التي تلت تأسيسه. واستمرت مواجهاته مع العراق والاحزاب الكُردية الاخرى لاسيما الحزب الديموقراطي فضلا عن الحزب الشيوعي العراقي الذي نال ضربة قاضية من اوك في منطقة (بشتاشان) حين اقام اوك مجزرة رهيبة لاعضاء ومقاتلي الحزب الشيوعي هناك.
وهكذا استحكم العنف والنزوع الى طبيعة الانتقام ومفردات القتال/العداوة بالبنى الاساسية لأوك والاحزاب الكُردية الاخرى.
وبعد ان استطاع اوك من التحول الى التنظيم الأول في مناطق سوران بكُردستان، اصبح يفكر بالقضاء على القوى الاخرى على الساحة كقناعة ايديولوجية، وكاكتشاف مثير عبر الانتصارات المتلاحقة في ميادين القتال ضد الاحزاب الكُردية.
وبعد الانقلاب الايراني الشهير ومجئ أية الله خميني الى ايران وقيام الجمهورية الاسلامية، اندلعت الحرب العراقية ـ الايرانية. وبسبب الصراع بين الدولتين اصبحت ايران الملجأ و المسند الأساسي للاتحاد الوطني الكُردستاني والحزب الديموقراطي الكُردستاني. وشارك الحزبان المذكوران جنبا الى جنب مع الحرس الثوري الايراني ضد القوات العراقية في الحروب والمعارك الكارثية.
في عام 1983 حيث كان اوك يعاني الضعف بحسب نوشيروان، دخل الاتحاد في مفاوضات مباشرة مع نظام البعث في العراق منفرداً، لم تصل الى نتيجة. اوضح طالباني في لقاء مع مجلة (الوسط) اواخر التسعينيات ان النظام التركي لعب دورا كبيرا لافشال المفاوضات كما اخبره طارق عزيز وزير الخارجية آنذاك، عشية المفاوضات بين الجانبين عام 1991. توركوت اوزال سافر الى بغداد آوان المفاوضات العراقية مع اوك. ولعلّ الاتفاق الذي جرى بين تركيا والعراق في نفس العام جاء كثمار للجهود التركية. وتضمن الاتفاق السماح للقوات التركية باختراق 20 كيلومتراً في عمق الأراضي العراقية لملاحقة quot;المتمردينquot; وللعراق الحق نفسه داخل الأراضي التركية.
في عام 1986 قام اوك يتقدم مجموعات من الحرس الثوري الايراني، الى العمق العراقي، والتي قصفت نفط كركوك ( انتجت ايران فيلما سينمائيا بعنوان عمليات كركوك كتتويج للعملية المذكورة). وفي عام 1988 تقدمت قوات اوك الحرس الثوري الايراني الى داخل حلبجة، وبحسب (جوناثان راندل) في كتابه (After such knowledge what forgiveness) الموسوم في ترجمته العربية (أمة في شقاق ـ دار النهار 1996) فان قصف حلبجة بالاسلحة الكيمياوية وعمليات الانفال جاءت كعقاب بعثي، لتعاون الاحزاب الكردية مع ايران. الحزب الديموقراطي الكُردستاني قام ايضا بجلب قوات ايرانية الى داخل العراق. وفي معرض الحديث عن الألوف من رجال عشيرة بارزان الذين واجهوا موتاً وحشياً، اوضح صدام حسين في حينه ان هؤلاء تعاونوا مع العدو الفارسي لذلك فانهم ذهبوا الى الجحيم!
لكن توقف الحرب العراقية ـ الايرانية في صيف عام 1988 والجرائم العظمى التي ارتكبها النظام العراقي في كُردستان اثناء الابادات الجماعية، اوثقت الخناق بشدة حول رقاب الاحزاب الكُردية التي اندثرت نحو المنافي الغربية، فيما انكمشت البقية نحو ايران. كانت الحرب الكردية ـ الكردية قائمة الى عام 1988 حيث ادركت اطرافها بعد سنين طويلة، ضرورة وقف القتال الداخلي، والانضواء تحت جبهة واحدة سميت بالجبهة الكُردستانية.
استمر النظام البعثي بتخريب مناطق كُردستان الجميلة بوحشية شديدة. وبدل انعاش القرى وتطوير المستويات الاقتصادية والزراعية دفع الطغيان والغرور بالنظام العراقي الى تناسي العواقب، والاستمرار في قمع الشعب الكُردي البرئ.
واستمر الطغيان حتى عام 1990 حين انفرد صدام حسين بالقرار الانتحاري في غزوة الكويت المأساوية.
وفي اعقاب غزوة الكويت واندحار العراق امام قوات التحالف الغربية ـ العربية قامت في كُردستان وفي جنوب العراق انتفاضة ضد النظام البعثي. لكن الانتفاضة فشلت بعد ان سمح التحالف الغربي للنظام العراقي سحق الانتفاضة. وفي كرّة الحرس الجمهوري على كُردستان حدثت هجرة مليونية، إذ لجأ مايقارب ثلاثة ملايين كُردي الى ايران وتركيا. وبسبب هول المأساة قرر مجلس الأمن الدولي انشاء منطقة آمنة للشعب الكُردي عرفت بتوفير الراحة (provide comfort). وهكذا قامت الجبهة الكُردستانية بالدخول في مفاوضات جديدة مع النظام العراقي.
انسحب العراق لاحقاً من كُردستان تاركاً الادارة للاحزاب الكُردية. بعد ذلك جرت انتخابات نسبية عام 1992 فاز فيها الاتحاد الوطني والحزب الديموقراطي في ما عرف بنظام الفيفتي فيفتي، حيث قسّما السلطة والادارة الى نصفين ثم شطرين متصارعين من جديد.
في مقال سابق ( الاسلامييون ومراكز القوى في كُردستان) قلنا ان مرحلة ما بعد انتخابات عام 1992 كانت مرحلة ذوبان الايديولوجيا الحزبية.
وبما ان الاسلاميين الذين نمت قدراتهم بعد المنتصف الثاني من الثمانينيات، شكلوا ثقلاً ملموساً في مناطق سوران بدا اوك يدخل في حسابات قلقة ومحرجة. فالاتحاد الذي اشتهر بشراسته القتالية وحداثته على المستوى الثقافي والايديولوجي، بدأ يقلق من جانب الاسلاميين الذين توسعت دائرتهم على حساب اوك. الحزب الديموقراطي الكُردستاني لم يكن بعد خائفاً من الاسلاميين استناداً على قاعدته العشائرية التي لا تحسب اي حساب للمفاهيم الثقافية/الفكرية على المستوى السياسي والاجتماعي. اوك كان في غمرة نشوة الانتصارات التي حققها في ميادين القتال ضد الاحزاب الكُردية، وكان يتمتع بالانتصار/الحلم الذي تحقق فعلاً بتحرير ارض كُردستان عام 1991. وكمنظمة جماهيرية ذات ثقل تاريخي لم يستطع اوك ان يهضم وجود الحركة الاسلامية في كُردستان/العراق بزعامة الشيخ عثمان عبدالعزيز، على قدم وساق.
اوك كان واثقاً من نفسه وقواعده، ومن دعم ايران وسوريا له. ولاحقاً نال اوك الدعم التركي عام 1992 بعد المشاركة في ضرب حزب العمال الكُردستاني.
واقعياً كانت كُردستان منقسمة الى قسمين. كان ثقل اوك في مناطق السليمانية واربيل. لم يكن له اي وزن جماهيري في دهوك الموالية للحزب الديموقراطي بشكل مطلق آنذاك الوقت.
تلازماً لثقل اوك كان ثقل الحركة الاسلامية في المناطق المذكورة. هيأ الاتحاد للمعركة وبدأ القتال عام 1993، واستطاع اوك في البداية من جني ثمار الحرب وحقق انتصارات كبيرة، واستولى على مقر قيادة الحركة الاسلامية ( نتحدث عنها في مقال آخر عما قريب).
وبدا ذلك بالنسبة لأوك استمراراً لسلسلة الانتصارات في القتال الداخلي منذ السبعينيات. لكن الاسلاميين المنقسمين اساساً والفاقدين الى تنظيم خبير ومتمرس ذهبوا بعناد وقسوة لتأسيس جبهات قتال ضد أوك في جميع المناطق، في قتال استنزافي كارثي. واشتدت غلظة الاسلاميين وعنفهم بفضل اسباب كثيرة نورد ذكرها لاحقاً في مقال آخر، وخسروا موقعهم كبديل مدني وحضاري للحزبين المتسلطين دون وعي وادراك.
اتجهت الحسابات الخاطئة بأوك الى توهم السيطرة على كُردستان بمفرده، فحاول القضاء على الحزب الديموقراطي الكُردستاني. وفي عام 1996 إذ كانت قوات اوك المرابطة حول مناطق قيادة الديموقراطي، وهي على مشارف (سَري ره ش) التف الديموقراطي من جهة اخرى مدعوماً بقوات الحرس الجمهوري العراقي ولاحق الاتحاد الى حيث ولّى هارباً الى داخل ايران يجرّ أذيال هزيمة منكرة.
لكن الاتحاد كرّ من فرّة وعاد مصحوباً بقوات الحرس الثوري الايراني، ومدافع آية الله، وبدأ يلاحق فلول الديموقراطي الهاربة باتجاه مواقعها الأصلية تاركة وراءها خسائركبيرة.
وهكذا استمرت الحروب الى عام 1998 حيث ضغطت امريكا في عهد (كيلنتون) على الحزبين للاتفاق على وقف القتال، فكانت (مادلين اولبرايت) وزيرة الخارجية الامريكية اشرفت على اتفاق واشنطن بين السيدين مسعود بارزاني وجلال طالباني.
في الأثناء كان الاسلامييون فضلاً عن انشغالهم بقضاياهم الداخلية، استمروا في توسعهم التنظيمي والثقافي ولو في اجواء متوترة ومريبة.
واستمرت الخلافات بين اجنحة الحركة الاسلامية الكُردية حتى عام 1999 حيث انفصلت منها عدة جماعات اخطرها واكثرها عنفاً على اوك، جماعة سميت بجند الاسلام ولاحقاً أنصار الاسلام.
أنصار الاسلام كانوا من خلّص المتشددين والأكثر عنفاً وخبرة في القتال داخل الحركة الاسلامية. هؤلاء لم يكونوا ملتزمين منذ البداية باوامر قيادة الحركة الاسلامية بل وعلى خلاف معها. الأنصار أخذوا الجانب الآخر من مدينة السليمانية، واسسوا لقتال غليظ ودموي ضد اوك. لم يستطع الاتحاد رغم امكانياته الكبيرة من الصمود امام شراسة أنصار الاسلام الذين زودوا اوك بخسارة تلو خسارة في جولات القتال، حتى اصبح الأمر في الخطورة ان ينهار الاتحاد على شاكلة الاحزاب الأفغانية امام حركة طالبان.
ولولا ان امريكا ادركت الموقف في الوقت المناسب، لأصبحت قيادة اوك والحزب الديموقراطي برأي زعيم الحزب الاشتراكي الكُردستاني (حَمَي حاجي محمود) محشورة في زاوية ضيقة في كُردستان. لكن امريكا استطاعت بنجاح، وسط ابتهاج اوك، من تدمير قواعد انصار الاسلام عبر الصواريخ بعيدة المدى التي انطلقت من البحر الأحمر، ونسفت مواقعهم بجبال هَورامان بشكل تام.
بعيد سقوط نظام صدام حسين، استطاع اوك بالمناصفة مع الديموقراطي من الدخول في العملية السياسية في العراق. وانتخب السيد جلال طالباني رئيساً للعراق.
وبسبب كبر سن طالباني هناك هواجس لجهة مستقبل اوك ومآله. وبما ان اوك يحتوي منذ الأساس على المركب من التيارات والجماعات المختلفة، فان فرصة انقسامه وتشرذمه محتملة الحدوث.
يعتبر السيد كوسرت رسول احد ابرز قيادات اوك. قاد كوسرت المجموعات العسكرية في اوك بنجاح كبير ضد القوات العراقية ومن ثم التركية عام 1996 اثناء مساندة تركيا للحزب الديموقراطي. وبسبب مشاركاته الميدانية اصيب كوسرت بجروح كثيرة اثرت على صحته البدنية. ويعد كوسرت شخصاً متزناً وصاحب ثقل جماهيري.
بعد بروز د. برهم صالح كشخصية ليبرالية واكاديمية يبدو ان اوك يفكر بالتخطيط للمستقبل في حمل نفسه كمنظمة سياسية، بالتناغم مع التطورات الجديدة. ومن هذه النافذة بدأت الأوساط الاعلامية والسياسية تهتم بشخص آخر ايضاً وهو قباد ابن الرئيس جلال طالباني، وهو ممثل حكومة اقليم كُردستان في واشنطن ولديه قدرات دبلوماسية ودرس في جامعات امريكا. ولعل الأمر في ابراز ابن الرئيس طالباني هو تكوين ثقل تراثي عائلي داخل اوك على غرار ما عليه الامر داخل الحزب الديموقراطي الكُردستاني. لكن لا يبدو في الأفق نجاح ما على هذا الصعيد نظراً لوجود قيادات اخرى كبيرة داخل اوك تحترم طالباني ولكنها لا تزن اي ثقل لابنائه قباد، وبافل. وهذا الأخير وهو النجل الأكبر لطالباني، يتمتع بمسؤليات معينة داخل اجهزة الاتحاد واشرف شخصياً على اغتيال احد قادة الجماعة الاسلامية الكُردستانية، الشيخ عبدالله القصري في نقطة تفتيش طاسلوجة قرب السليمانية.
أما السيد ملا بختيار احد قادة اوك فليس من الوزن الثقيل كما هي الحال مع اللاعبين الكبار داخل اوك، ولديه اهتمامات ثقافية ويصدر مجلة ارتأى لها تسمية (المدنية). لكن الرجل شارك في الحرب الداخلية وعليه علامات استفهام كثيرة حول تورطه في الارهاب، و خصوصاً في بعثه فتاة ذي 13 عاماً، وهي ملغومة بشريط ناسف بمواد متفجرة، الى احد مسئولي الحزب الديموقراطي عام 1994 لغرض اغتياله. الفتاة يتيمة، واقرت ان ملّا بعثها من اجل ان تفجر نفسها. راجع ان شئت اسبوعية (ميديا) الكُردية وقصة الفتاة التي قضت 13 عاماً في السجن، العدد (234) في 4/4/2006. فضلاً عن ذلك فان ماضي ملّا بختيار لا يبدو شفافاً على الصعيد الحزبي، فقد أهين الرجل عام 1983 اثناء انفصاله من اوك وتاسيسه لـ (راية الثورة)، حيث اعتقله طالباني ونوشيروان وعاقباه بالتعذيب الجسدي والمعنوي. وتقتصر افكار ملّا بختيار على محاربة الاسلام والعرب واعتبارهما كينونتين متخلفتين و وحشيتين!
منذ عام 2003 يستحوذ اوك على نصف ميزانية كُردستان من عائدات النفط. لكن كما الحال في مناطق الحزب الديموقراطي، فان الاتحاد الوطني ضرب الاطناب في الأرض من حيث اختلاس الأموال، والفساد الاداري المستحكم بادارة اوك في مناطقه. الصحافة الكُردية مليئة بالأدلة والوثائق، فضلاً عن ادلة مشهودة حول تحوّل مسئولي الاتحاد الى مليونيرية، بين عشية وضحاها.
في مقابلة له مع جريدة الحياة اللندنية قبل فترة وجيزة اثنى الرئيس العراقي جلال طالباني على هذه الحال، و اعتبر وجود الف مليونير وعدة مليارديرية في مدينة السليمانية انجازأ عظيماً. هؤلاء الأغنياء الجدد في غالبيتهم ينتمون الى أوك. الفساد الاداري والانهيار التنظيمي على المستوى الفكري والثقافي، قد يفسر استقالة القيادي الأبرز في أوك، نوشيروان مصطفى في العام الماضي.

ان مستقبل الاتحاد الوطني الكُردستاني امسى مرتبطاً بشكل عضوي بحيثيات ومصير الحكومة العراقية الحالية، وبقاء القوات الأمريكية في العراق. ان العوامل الداخلية على الصعيد الحزبي ومن ثم على صعيد كُردستان لا تشجع على رؤية افق مشرق لأوك مستقبلاً. وبما ان زعيمه التاريخي جلال طالباني امسى متقدما في العمر، ونائبه السابق، نوشيروان، مستقيلاً من الحزب فان التيارات والأجنحة الأخرى قد لا تنضوي تحت راية واحدة خصوصاً بعد انقلاب الأحوال والموازين. فأوك ليس مثل الديموقراطي مستنداً على تراث العائلة الحاكمة، لذلك فان احتمالات بقائه موحداً، منذ عام 2003 وبعد، رهن بالظروف والتقلبات. هذا في الوقت الذي اصبحت العلاقة فيه بين الشعب و الاتحاد الوطني علاقة كره ونفاق ومصلحة.
لقد عاينت الوضع بدقة في زيارتي الى مناطق الاتحاد الوطني في العام الجاري. إن اوك اذا لم يقم باصلاح جذري وكبير، فان فرصة خلق فوضى اجتماعية وسياسية في مناطقه، في غضون الفترة المقبلة: عامين او اكثر، سيكون كبيراً جداً، بل وربما في وقت أقرب. وفي هذا المجال يحسن بنا التنويه الى مسألة مهمة في ما يتعلق بعلاقة اوك بالاسلام والاسلاميين باعتبار ان صراعاً دموياً حدث بين الجانبين. إن الضرورة تحتم على اوك عدم تصعيد العنف ضد الاسلاميين واستفزازهم، بل يجدر به اقامة علاقة قوية وصادقة مع التيارات المعتدلة مثل الجماعة الاسلامية والاتحاد الاسلامي، للحيلولة دون افساح الطريق امام تيارات متطرفة مثل القاعدة وانصار الاسلام، اللذين لا تقدر اي معادلة سياسية من احتوائهما بعد الانسلاخ الكلي في المسارات السياسية في منطقتنا والعالم.
وعلى صعيد آخر ينبغي على اوك و الحزب الديموقراطي، فضلاً عن الاحزاب الأخرى العمل الجدي والمخلص لاعادة العملية السياسية وفق ضوابط الشرعية الدولية وتسييد القانون، واحياء البرلمان من جلطته الدماغية.
ان اجراء انتخابات نزيهة وعاجلة امر ملح وحيوي جداً بالنسبة الى كُردستان. وعلى صعيد آخر هناك جيل جديد في الحزبين الرئيسيين لديه طموحات سياسية، وهي تتمتع بقدرات ملموسة. ان وجود ابناء السيدين مسعود بارزاني وجلال طالباني في العملية السياسية ليس بالامر المذموم إذا لم تتجاوز ممارساتهم الحدود القانونية، وكذلك شرط الاذعان لتحقيق المطالب الشعبية و العمل من اجل مستقبل افضل لكُردستان. ان السادة برهم صالح، نيتشيروان بارزاني، مسرور بارزاني، قباد طالباني كجيل شاب وطموح، إذا ارادوا التحول الى ساسة مدنيين وفاعلين في الديموقراطية، عليهم اولاً اخذ الدروس والعبر من الحكام الظالمين والمستبدين، وبالتالي معاملة الشعب وفق معايير وضوابط الكرامة وحقوق الانسان. ان اول خطوة على هذه الطريق هو عدم الانحناء امام النزوات والاستسلام للشهوات الشخصية. الحاشية المتملقة والمنافقة هي اول من يدفع الساسة نحو الجحيم المسعّر. يجب علينا جميعاً تذكر الدرس الأول في الحياة اننا لن نبق الى الأبد. والحياة إذ هي قصيرة من المفروض ان نحولها الى جنة لنا جميعاً.
قبل أيام صدر تقرير من (human rights watch) تفيد بالممارسات الوحشية في السجون الكُردية ضد المعتقلين السياسيين. ويؤكد التقرير الاساليب المتوحشة في تعذيب السجناء بالصعق الكهربائي وقلع الأظافر والاعتداء الجنسي. وقبل أشهر كان هناك تقرير من الوزارة الخارجية الأمريكية تثبت الشئ نفسه. وكنا اشرنا الى ذلك في مقال سابق لنا على الايلاف بعنوان كردستان من الداخل كما هي. ونتحدث قريباً عن بعض الممارسات الوحشية في سجون الحزبين. قد تكون أكثر ملكاً وقوة ولكن احذر ان تنسى الآخرين من البشر، فلهم الحق في حياة حرّة وكريمة. وما دُمت تاركاً للحياة في نهاية المطاف، فالأولى ان تترك اسماً لامعاً وراءك، ليس بالضرورة ان تتخلى عن مُتعك في الحياة ولكن الاقتراب الأكثر من العدالة يحقق اكثر الطموحات لهذا الجيل الشاب الذي ذكرته. وإلّا فلن تبلغ قوتهم قوة صدام الذي هوى تحت الحبل وهو كظيم. وانقلاب الموازين في احتمال بليغ، قد يلحق هؤلاء بصفوف الزعماء الذين انتقمت منهم شعوبهم!
وهذه نصيحة لا تقدر بثمن، الى ساسة الكُرد المتسلطين اليوم بالظلم والفحش على رقاب الناس المظلومين. ولكم في الظالمين عبرة بليغة ان كنتم تعتبرون!