المرأة سرّ الكون, وهي اللغز الذي يفني الإنسان عمره بحثاً في أغواره, فهي محيط متلاطم من المدّ والجزر, من العطف والهجر, من الحنان والقسوة, خزان مليء بالمفاجآت, بعضه يمنحك الأمل حدّ الشعور بالخلود, وبعضه الآخر يصيبك بالدوّار الوجودي والقنوط المطبق, هي بخار متصاعد, يكون ذلك البخار عطراً أحياناً, ويكون بداية احتراق في أحيانٍ أخرى, مركزيتها في حياتنا منسيّة, فهي الكائن الذي نهمله إذا أردنا البحث عنه, وهي الضوضاء التي تموسق إيقاع حياتنا, هي صبغتنا الخارجية والداخلية, هي الأم أحياناً والتي نمتصّ منها رحيق الحياة ونشرب من نبعها نبض الوجود, وهي نقطة اتصالنا بـquot;الماقبلquot; هي الوعاء الذي تكوّرنا داخله, حتى قطع سرّنا وركضنا في مضمار الحياة. وهي أيضاً الزوجة والحبيبة التي تهب نفسها وحياتها, لقلب من أحبها, لتصبح ذخيرة لا تنضب حباً ورعايةً ومعيشة وسخاءً. تصبح جهاز استشعار كوني تسير على توجيهاتها العائلة, ويسمو بروحها, تتحوّل إلى طيف خارق يسكن الذاكرة والمخيال, تتحول إلى مملكة من التخيلات تشعّ إلهاماً ونبضاً وأمناً, إليها نلجأ إن سعدنا, وإليها نلجأ إن شقينا, هي النار والماء, الأمام والخلف, الحقيقة والخيال, الطيف والواقع, المسؤولية الشاقة والسعادة الغامضة.
تلك المرأة, بكل جبروت حضورها, تصبح في عالمنا مجرّد quot;قضيةquot;, تصبح قضية من عرض القضايا, تصبح مجرّد ملف مركون في مكاتب القضايا الفكرية والسياسية, وهي الطيف الشامل الذي يلفّ صور حياتنا كلها, وهي السماء التي تغطّي كل ثغراتنا! هي ليست قضية, وإنما quot;ضحيةquot; إنها ضحية معلّقة مصلوبة على الملأ تحت قمع ثقافة متناسلة ومتوالدة, حيث تتواطأ ثقافة طويلة التكوّن ضد صناعة quot;ظروفquot; مواتية لها, تغتصب الثقافة كل حقوقها, وتقذفها إلى الخارج, تضعها الثقافة المستبدّة الانقلابية على الرفّ.
تصبح المرأة مجرد قضية في مكاتب quot;الذكورquot; تصبح مجرد آلة, ومجرد شيء. تصبح في عالم مشبع بالغريزة مجرد مشجب فكري, أو أيقونة شعرية, أو أمثولة فنية, أو صورة فوتغرافية إعلانية.أو قصة وعظية استهلاكية مليئة بالرعب, بعضهن ركضن وراء تلك الكذبة ركضن وراء أكبر كذبة, تدعم فحولة الرجل الذي قرر ذات مساء -بعد أن تناول الفول والشاي وشاهد أخبار التاسعة- أنها quot;القضيةquot; بينما هي ليست قضية. بمعنى آخر المرأة ليست سطوراً في ملف, حالتها المزرية التي تعيشها الآن ليست ملفاً علاقياً يركن على الرفّ! إن حالتها تعتبر quot;الخسفquot; الذي يعثّر سير الحياة بشكلها الطبيعي, حالتها المزرية حالة تعبّر عن إخفاق عربي شامل, بل وشرقي في التصالح مع الحياة.
المرأة هي الحياة, والحياة ليست قضية, وإنما قدر وجودي, يجب أن نبتعد عن طريقها, أن نعطيها مساحاتها المحتلة, التي أخذتها أساطيل الرجال المنكوبين من نسائهم ذات تاريخ. إن سوء علاقتنا بالمرأة في عمقه سوء علاقة بالحياة, إنّ كفرنا بالمرأة هو سبب كفرنا بالحياة, المرأة ليست قضية تحتاج إلى حل, وإنما نحن quot;القضيةquot; فعْل الرجل هو القضية حين زحزح المرأة وربض على رأسها, وكسر سنّها وأعطاها المكنسة والمقرصة, وجعلها مجرد تُحفة في غرفته. لا تصدقوا أن المرأة قضية, إن quot;الثقافةquot; هي القضية, والرجل والمرأة جزء من تلك الثقافة.
أرى سيلاً من النساء -من الإعلاميات والصحافيات ووقعن تحت سطورة كذبة صنعها الرجل- شربن مقلباً ثقافياً ضخماً. فالمرأة هي الحياة, وكل الذين يحبّون الحياة أحبوا المرأة, وعاشوا في شراكة كونية معها, أما الذين يحبّون جسدها فالكل يفعل ذلك, نحن نرى المعري وشبنهور ونيتشه, يقفون موقفاً حاداً من المرأة, نيتشه يقول quot;المرأة بقرةquot; وشبنهور يرى المرأة quot;سبباً في وجوده البائس في الحياةquot; والمعري كذلك, إن التنحية الشاملة التي تمارس ضد المرأة هي في حقيقتها تنحية لدور الحياة, وإجهاز على شرايينها, إنها ثقافة تمارس القمع ضد المرأة وضد الحياة, من هنا قال صلاح ستيته عن المرأة أنها quot;السر الغامضquot; وفعلاً فهي مرآة تكشف مدى تجاوبنا مع وجودنا, ومدى صحة علاقتنا بالحياة. وأكثر الناس اعتداءً على المرأة من يضعونها على الرفّ في بيوتهم ويغلقون عليها الأبواب لتصبح كالثلاجة والفرن, ولا يختلف عن ذلك الفعل, فعل بعض من يدّعون التحرر وهم أكثر استبداداً وتعنتاً حينما يقررون بكل ذكورية وفحولة أن المرأة quot;قضيةquot; ويسيرون في الشوارع وكأنهم اكتشفوا الذرة أو الجاذبية, بينما لا يستطيعون تنفيذ أفكارهم ولا الجرأة على تطبيقها, إنها الكائنات الفكرية التي تمارس الدعاية لنفسها من خلال استعمال المرأة, وهو جزء من اغتصاب دورها وتشييئها, بكل عنجهية وافتضاح.


كاتب سعودي.
[email protected]