(... فاللُّغةُ علبة للرِّياءْ واللُّغةُ لُعبةٌ في يَدَيْ مَنْ يَشَاءْ واللُّغةُ سِمْسِم الكَاذِبينَ الوَفِيرْ..) كثيرًا ما يستوقفني هذا المقطع البديع من قصيدة الشّاعر العراقي مريد البرغوثي في مقام التّأمّل والنّظر، منطلقًا من ثمّ إلى قناعة أنّ اللّغة والبلاغة ثنائيّة خدّاعة، ووجهان لعملة واحدة، تنتج أحيانًا الزّيف والكذب والتّمويه، بل تصل الخدعة اللّغويّة ndash; في بعض الأحايين ndash; إلى قلب الأبيض أسودًا، والحقّ باطلاً.
ومشكلة اللّغة ndash; كما يرى المُفكّر اللّيبي الصّادق النّيوم ndash; مثل العكّازة، أداة نتوكّأ عليها عبر جميع الطّرق، وتدقّ لك كلّ الأبواب، لكنّها لا تستطيع أن تقودك إلى البيت الذي تقصده، حتّى تعرف أنت الطّريق إليه. من هنا فإنّ اللّغة لا تقول شيئًا من دون تصوّر يكون في ذهن المُتكلّم قبل استخدام اللّغة.
إنّ اللّغة (ببلاغتها) تفعل ما يفعله السّحر.. وقد جاء في الكتب القديمة (إنّ من البيان لسحرا)، وقد جمع الأستاذ أحمد السّيّد الهاشمي مختارات مشرقة من تراثنا الشّعري سيّجها تحت عنوان (السّحر الحلال من الحِكم والأمثال)!
واللّغة متى ما تمكّن منها متحدّثها، وامتلك ناصيتها، ويسّرها وفق ما يريد، فإنّ النّتيجة إذ ذاك ستكون quot;فتّاكةquot;، تفتك بالمُتلقِّي والمستمع مثلما تفتك المبيدات الجبّارة بالحشرات والهوام الضّعيفة!
وخطورة اللّغة أنّها سائل لفظي يستعصي على البعض، ويأبى على quot;التّطويعquot;، ويستنكف عن الإمساك، فلا تتبيّن الحقّ فيه من الباطل، إذ المقياس في ذلك والمعيار هو البلاغة والفصاحة والتّلاعب بالكلمات، حتّى تُصيِّر ظلّ كلّ شيء مثيله!
حسنًا.. استمع لقول نبيّ الرّحمة صلّى الله عليه وبارك، في الحديث الذي روته أم سلمة رضي الله عنها، إذ تقول: (سمع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم خصومة بباب حجرته، فخرج إليهم فقال: إنّما أنا بشر، وإنّه يأتيني الخصم، فلعلّ بعضكم أن يكون أبلغ من بعض، فأحسب أنّه صدق، فأقضي له بذلك، فمن قضيت له بحقّ مسلم، فإنّما هي قطعة من النّار فليأخذها أو فليتركها.)!!
إنّ المُتأمّل لهذا الحديث الشّريف يدرك خطورة البلاغة، وصعوبة التّعامل مع من يمتلك ناصيتها، إذ من المُحتمل أن ينقلب الباطل إلى حقّ، والظّلم إلى عدل، والاعوجاج إلى استقامة بسببها.. فالله المستعان على ما يصفون!
إنّ من أسخف القواعد القانونيّة العالميّة قاعدة تقول: (إنّ القانون لا يحمي المغفّلين)، والسّؤال المتوغّل في الاستغراب هو: هل الأقوياء والأذكياء وquot;الفاهمونquot; واللّصوص وغيرهم كثير، هل هذه النّوعيّات تحتاج إلى قانون أو حماية؟! وإذا بحثت عن إجابة لهذا السّؤال الكوني فاصحب معك مقولة الفيلسوف الكبير نيتشه: (القانون يفسّره الأقوياء)، لتعرف في صفّ من يجب أن يقف القانون! من هنا يبدو القوي غير محتاج إلى قوّة إضافيّة داعمة، وquot;الفاهمquot; غير منتظر لتحيّز قانوني يزيد من quot;سطوة فهمهquot;، وquot;اللّصquot; غير جدير quot;بوقفةquot; القانون فهو quot;قويّ العينquot; بما فعل.. لهذا، يبدو القانون بالنّسبة لهذه الطّوائف من كماليّات الحياة، لا يحتاجونه إلا مرّة في العمر، وذلك ndash; ببساطة ndash; لأنّهم فوق القانون. ولله ما قاله أديبنا الكبير حمزة شحاتة في كتابه quot;رفات عقلquot;: (لابد أن تحمي العدالة حقوق الغافلين العاجزين.. أمّا غيرهم فليسوا في حاجة إلى حمايتها، بقدر ما هي بحاجة إلى ما يحميها من ذكائهم..) ص59.
وكم كان الإسلام رائعًا حين جاء لحماية الضّعفاء والبسطاء والمسحوقين والأغبياء، وقد قال صلّى الله عليه وبارك: (الضّعيف أمير الرّكب)، والضّعف هنا بمعناه الشّامل، الضّعف الذي يجعل صاحبه يستحقّ quot;الحمايةquot;. لذا اسمحوا لي أن أُغيّر القاعدة القانونيّة quot;السّخيفةquot; لتكون على النّحو التّالي: (القانون لا يحمي إلا المغفّلين)، ليصبح قانونًا إنسانيًّا قويًّا، وليس آلة من آلات quot;الموسيقىquot; التي تُطوّعها quot;الأصابع البشريّة اللّغويّةquot;!

[email protected]