مذهل وصادم أن تسمع نبأ وفاة صديق من نشرة أخبار في التلفزيون. هذا ما حدث معي بخصوص نصر أبو شاور. الفلسطيني الأصيل والشاعر المرهف. تعرّفت عليه، في تلك الأيام الأولى من قدوم السلطة: الأيام التي لا تُنسى. كانت اللهفة تأخذنا كل مأخذ، لنرى ونتعرّف على فدائيينا وشعرائنا الذين عادوا إلى تراب البلاد، بعد غياب طويل ولا غياب عوليس. كنا نكاد لا نصدق أنهم عادوا، وأنهم بين أحضاننا الآن. فما يحدث هو ضرب من الحلم والخيال، لم يعوّدنا عليه جفافُ أيامنا، ولا جنرالات الاحتلال الصغار. لكن، ها هو الحلم قد تحقق، وها هم بعض أحبابنا بين أحضاننا.
تعرّفت على قائمة من الأعزاء المثقفين، محمد حسيب القاضي وحسن خضر وأحمد دحبور وعايد عمر ونصر أبو شاور. وأذكر أيامها أنني استغربت، فمعظم هؤلاء كانوا بلباس العسكر، فلمَ ذلك؟ ثم فهمت فيما بعد أنهم قدموا إلى فلسطين، بصفتهم عاملين في الأمن الوطني، حسب الأوراق الرسمية.
كنا نذهب، الروائي محمد أيوب وأنا، لزيارة نصر وعايد وحسيب القاضي في مراكز الأمن الوطني في رفح وخانيونس. ثم نخرج من جو الثكنة، الذي لا نطيقه جميعنا، لنجول في الطرقات، ونتنسّم نسيم البحر القريب في أمسيات الصيف. لفت نظري في نصر أنه رجل قليل الكلام، وأنه مخلص لعمله العسكري كضابط، وصارم في مواعيده وعمله. سألته أول ما سألته عن قرابته من الروائي المعروف رشاد أبو شاور، فقال إنه متزوج من شقيقته. كان نصر يعمل أيامئذ مع عايد عمر، وكانت الصداقة بينهما صداقة عمر وذكريات. حتى أنهما ارتبطا في ذاكرتي بوجودهما معاً، فما من مرة فكرت في أحدهما إلا وفكرت في الآخر.
بعد أيام قليلة من وصولهما، أنشآ جماعة ثقافية في رفح، وقاما بعدة نشاطات. وهو الأمر الذي لم نتعوّد عليه سابقاً، ولا تعوّدت عليه المدينة. جاء لنشاطاتهم بشر كثر من مثقفين ومحبين للثقافة. واستبشرنا خيراً. لكن استبشارنا لم يطل كثيراً، لأسباب ليس هنا مجال ذكرها. ولا تتعلّق بالطبع بنصر أو عايد أو حسيب. فهؤلاء مثلنا، لديهم كل الرغبة في العمل النظيف، ولكنهم أُبعدوا وتجوهلوا، مثل عشرات غيرهم.
المهمّ: مضت الأيام والشهور والسنين، وغادر عايد عمر إلى رام الله، وبقي نصر أبو شاور وحيداً يسكن المدينة الحدودية. أراه بين الحين والحين، فأعلم أنه كتب قصيدة جديدة أو بحثاً، أو أنه لا جديد لديه. أسأله عن أخباره الشخصية وعن رشاد، فألاحظ مدى إحباطه مِن جميع ما يجري، ومدى فجيعته مما تراه عيناه: عينا المناضل الوطني الشريف، والشاعر الرائي الذي يغوص عميقاً في لجة الصمت.
[ لم نأت من أجل هذا! ] يحشرج وتكاد لا تسمع الجملة. يقولها بخجل شخصي وكأنه هو المسؤول عن كل هذا الخراب المستشري في جسد السلطة.[ لا عليك يا صديقي، فأنت لا ذنب لك! ] أحاول التخفيف عنه، ثم أغصّ مثله في الذي نرى ونسمع. تأخذنا الأيام إلى مزيد من الكآبة، فتتباعد لقاءاتنا، ويُدفن نصر في عمله العسكري الروتيني، مقابل لقمة العيش الصعبة. يخلص للعائلة الصغيرة، ويجاهد كي يدبّر أحواله في ظل هكذا ظروف.
لم يلتفت إليه أصحاب الشأن الثقافي الرسمي، كما لسواه، فيُعيّن في وزارة الثقافة مثلاً، حيث مكانه الطبيعي كشاعر وكباحث. وهذا ما فعلوه أيضاً مع حسيب القاضي وعايد عمر. حتى أنّ حسيب تقاعد مؤخراً وهو ما يزال على ملاك المؤسسة العسكرية. مهزلة؟ بل أكثر من مهزلة! ولكنْ: كم في فلسطين من مهازل لو تدرون! أذكر الآن آخر مرة رأيت فيها نصر. كانت في بيت الشاعر خالد جمعة في مخيم الشابورة في رفح. كان ناحلاً ويعاني من وجوم. ببساطة كان على غير ما يرام. سألته عن أحواله، وفي خضم الحديث أشرت عليه بالانتقال مثل عايد إلى الضفة. فمن هناك يستطيع أن يرى أهله ويكون أقرب إليهم. لكنه بدا متعوّداً وربما كان يائساً من تحقيق هذه الإشارة. فالأوضاع في قطاع غزة، هي واقعاً ومجازاً، أشبه بالجحيم. ولا مجال ثمة لأن تًغيّر من حالك ومآلك.
الآن أتذكّر هذه الإشارة العابرة، وأقول لنفسي ليته أخذ بها! ليته سافر بعائلته الصغيرة إلى الضفة. لكان ما حدث لم يحدث، ولكان نجا من هذه التراجيديا السوداء.
إنه أول شاعر فلسطيني في تاريخ القضية يُقتل بأيد فلسطينية... يا للهول! كيف سأستوعب وأهضم ذلك؟ حتى الآن: حتى لحظة كتابة هذه السطور، هذه السطور التي تأخّرت كثيراً، لا أكاد أصدّق أنّ نصر الشفيف قد مات. فنصر لم يشبع من عمره، وزوجته وبناته بأمس الحاجة لحنانه ودفئه، فما الذي فعلناه بأنفسنا ولأنفسنا؟
كلهم هربوا من الميدان، وليته هرب مثلهم. ليته هرب مثلهم. فما من معنى ولا طعم للصمود والشرف العسكري وأنت تواجه غير أعدائك!
يا نصر
يا نصر أبو شاور: ستظل غصة في قلوبنا وبُحة على طرف ألسنتنا. فقد ظُلمت حياً وميتاً. ظُلمتَ شاعراً وظُلمت ضابطاً. ظُلمت فلسطينياً نقياً شريفاً، في زمن غير نقي وغير شريف.
فالرحمة لروحك، والعزاء لعائلتك الصغيرة، ولصديقنا العزيز رشاد، ولكل القابضين على وطنيتهم وإنسانيتهم في هذا الزمن الردىء.
والعار أولاً وأخيراً لقاتليك.