منذ الإسلام المبكر، لعب المكان دورا رئيسيا في تأويل النصوص الإسلامية، القرءان والأحاديث النبوية، فمنذ خروج الصحابة (رض) في إطار حركة الفتوح إلى الأمصار، وتحديدا إلى العراق والشام ومصر، لاحظ الدارسون أثرا واضحا لبيئة تلك البلاد غير الصحراوية على أحكام الشريعة والعلوم المتصلة بها، كالفقه وأصول الفقه، وقيل ان الإمام الشافعي كانت له فتاوى في مسائل معينة لما كان في العراق، فلما أقام في مصر قام بمراجعتها وتغييرها.
ولعل أوضح مثال يمكن أن يضرب لأثر المكان في تأويل الإسلام، ما يمكن تسميته بquot;فقه الأندلسquot;، فقد طبع فقهاء اسبانيا الإسلامية ما استنبطوه من قوانين ومعارف وعلوم دينية، بصفات بيئتهم الجميلة الخضراء المزهرة، فجاءت على قدر كبير من التسامح والتفهم والإنسانية، وفكت الكثير من التناقضات المفتعلة بين الدين والعلم والدين الفن والدين والحياة شكل عام، و على نحو مجمل، كان إسلام الأندلس خلال الفترة الممتدة بين الخلافة الأموية الثانية وحتى دخول يوسف بن تاشفين المرابطي، إسلام حياة لا إسلام موت، وإسلاما أخضر لا إسلاما أحمر.
لقد أثرت قساوة المكان في الغالب، أكان صحراء مقفرة معذبة أو معازل جبلية وعرة شحيحة، على آداء المشتغلين على تأويل النص الديني الإسلامي، سواء من فئة الفقهاء أو من فئة قادة الفرق والجماعات الدينية والسياسية، وهو ما أنتج منذ زمن مبكر نوعين من الإسلام تقريبا، إسلام صحراوي وإسلام حضاري، إسلام بدوي وآخر حضري، لا يعدم المتابع تداخلات بينهما، لكن سيرتهما ما تزال واضحة إلى يوم الناس هذا.
إن المتأمل في نشوء الجماعات والحركات الإسلامية المعاصرة، سيعثر أيضا على أثر للمكان في سيرتها وتوجهاتها، فقد كانت مدن الصفيح وأحياء المهمشين المعدمين على تخوم المدن الكبرى في مصر والجزائر والمغرب والعراق مؤخرا، ودولا عربية وإسلامية أخرى، حاضنة لما عرف بإسم الجماعات الإسلامية الجهاية، وهي الجماعات الأكثر عنفا وتطرفا، بينما انتمى أبناء البيئات الأكثر رفاهية في أغلب الحالات إلى حركات إسلامية أكثر اعتدالا، من قبيل حركة الإخوان المسلمين.
وعلى الرغم من انحدار أسامة بن لادن من عائلة فاحشة الثراء، إلا أن نشوءه في بيئة إسلامية سلفية صحراوية قد أثر بعمق في سيرته، وقد زادت عملية دفعه من بيئة قاسية إلى بيئة أقسى عبر السودان وأفغانستان في نزعته المنغلقة المتطرفة، تماما كما أعانته الأماكن الفقيرة البائسة المنتشرة في جل حواضر العالم العربي والإسلامي، على تجنيد المزيد من أتباعه، ومنهم الانتحاريون الذين وعدوا بأن يعوضوا عن أكواخهم في مدن الصفيح المعدمة المغلقة، بقصور مرفهة في جنات الخلد التي لا وصف لها.
و أثر المكان في تأويل الإسلام، يظهر في نزعة التجريد والتركيب لدى المؤولين، ففقهاء الإسلام الصحراوي عادة ما يميلون إلى التبسيط في تحليل القضايا الشائكة المطروحة واستنباط الأحكام لها، تماما كما بيئتهم بسيطة العناصر و محدودة الألوان، فالمعارك عندهم هي بين الحق والباطل، والشر والخير، والكفر والإيمان، والإسلام وغيره من العقائد والأديان، خلافا لفقهاء الإسلام الحضري الذين استعانوا فيما مضى بمعارف وعلوم غير إسلامية، يونانية ورومانية و فارسية، و لا يجدون غضاضة اليوم في التوافق مع العصر.
و تصدق نظرية المكان بشكل نسبي أيضا، في بحث أحوال الأقليات المسلمة في الغرب، فقد بدا الإسلام العنيف الجهادي أكثر قدرة على التأثير في شباب الضواحي الفقيرة في باريس ولندن و مدريد وسواها من المدن الغربية، مقارنة بالإسلام المتسامح، تماما كما بدا أبو قتادة وأبو حفص وأبو حمزة وغيرهم من خطباء الحقد والقفر والكراهية أشد تأثيرا في ساكنة أحياء المهاجرين المسلمين الفقيرة قليلة المرافق، من طارق رمضان داعية التوفيق بين الإسلام والعلمانية، والإسلام والحداثة، وهو الرجل الذي نشأ وترعرع في بيئة سويسرية أقرب إلى الغنى، خضراء ذات هواء عليل.
إن الإسلام كأي عقيدة دينية، وإن كانت ذات مصدر سماوي حسب ما يعتقد المؤمنون، فإن تأويلها يظل إنسانيا، والتأويل غالب على النص بالمكان والزمان لا محالة، والإسلام الحالي أغلبه تراث من صنع بشر يعتريهم الضعف ويؤثر في مزاجهم المناخ وطبع العيش، شظفه و ترفه، وعندما يكون المجال خصبا منتجا محببا في الحياة يميل أهله إلى دين بالمواصفات نفسها، أما إذا كان المجال أجدبا قليل الخير مكرها في الحياة، فإن أهله سيميلون غالبا إلى تأويل يرخص لهم الموت ويمنيهم بالنعيم المقيم.
و إن الإشارة إلى أثر المكان في تأويل الإسلام، لا يقصد بها الاكتفاء، فلعوامل أخرى عديدة تأثيرات على اتجاهات الفقه والتفسير والتعامل مع النصوص الدينية و المخلفات التراثية الإسلامية، لكن الوعي بأهمية هذا العامل سيساعد لا محالة، كل عامل على إنجاح أي مشروع يتطلع إلى إنتاج إسلام متصالح مع القيم الإنسانية، إسلام مدني حضاري متسامح، إسلام يقوم على إيمان فردي خاص، معارض لكافة أنواع العنف، غير مقحم نفسه في خلافات البشر السياسية والزمنية، متعفف على الانغماس في تفاصيلها المتبدلة.
* كاتب تونسي
- آخر تحديث :
التعليقات