من مظاهر الصَّحوة وإفرازاتها quot;الكريهةquot; أنّها حوّلت مظاهر الدّين، وإشعاعات الإسلام إلى ميادين للتّجارة، ومجالات للكسب، وطرائق للارتزاق.
ولعلّ أبرز مظاهر هذا الاتجار، ما نراه انتشر وكأنّه البعوض في المستنقعات الملوّثة، وأعني به quot;بيع التُّفالquot; من خلال القراءة على المرضى، والمحتاجين للصحّة والعافية، مستغلين بذلك رغبة المريض، وهاجس الشّفاء الذي يجعله يتمسّك quot;كالغريقquot; بأيّ قشة، هذا الاتجار بالرّقية، واستحلاب جيوب النّاس من عملها، جعل العلماء الكبار يحذّرون منها، موضّحين الصّحيح منها والسّقيم، وهناك من طلبة العلم من ألّف quot;كتابًاquot; مستقلاً عن هذه quot;الشّعوذة الجديدةquot;، إنّه الشّيخ عبدالكريم بن صالح الحميد، تحت عنوان quot;بيان الأدلّة النّقليّة والعقليّة في الفرق بين الرُّقية الشّرعيّة والرّقية التّجاريّةquot;، ناقش فيه الشّيخ كلّ ما يمكن أن يخطر على بال الرّاغب في تلمّس الشّفاء من خلال هذه الوسيلة الإسلاميّة، التي شوّه المزيّفون وطُلّاب الدّنيا، وعشّاق المال quot;مضمونها وفاعليتهاquot;.
وأجمل ما في الكتاب أنّ الشّيخ نظم قصيدة في هذا الصّدد جاء فيها:

أحْذَرْ رُقَاةَ زَمَانِنَا إنْ يَطْلُبوا
مِنْكَ الدَّرَاهِمَ حِيْلَةَ المُحْتَالِ
لَيْسَتْ تَحِلُّ لَهُمْ، وأنْتَ تَظُنُّها
حَقًّا لَهُمْ فَتَجُودُ بِالأمْوَالِ

إلى أن يقول:
مَا قَارِئٌ جَعَلَ القِرَاءَةَ حِرْفَةً
إلّا لِيَرْبَحَ وهو كَالبَطّالِ
لا يَسْتَحِقُّ عَلَى القِرَاءَةِ دِرْهَمًا
وأرَاكَ تُعْطِيهِ بِلا إقْلالِ
مَا هَؤُلاءِ سِوَى التِّجَارِة يَمَّمُوا
بِوَسِيْلَةٍ كَوَسَائِلِ الأنْذَالِ
وبِنَفْخَةٍ كَسِبُوا الدَّرَاهِمِ دُوْنَمَا
تَعَبٍ، وغَرُّوا سَائِرَ الجُهّالِ
والبَعْضُ يَرْقِي كُلَّ مَنْ يَبْذُلْ لَهُ
لَوْ كَانَ شِرِّيْرًا مِنْ الأنْذَالِ
والبَعْضُ يَخْلُو بِالنِّسَاءِ وثَالِث
شَيْطان خَلْوَتِهم، وليسَ يُبالِي

إلى أن يقول:
والدِّينُ لَيْسَ بِحِرْفَةٍ وصنَاعةٍ
حتّى يُباعَ كَسَائِرِ الأشْغَالِ
أوْرَاقُهُمْ كَتَبُوا بِها، وتَعَلّقتْ
هِمَمُ الرُّقاةِ بِصَفْقَةِ الأمْوَالِ
وتَرَاهُمُو فِي نَفْثِهم، وهَدِيْرِهِم
يَتَرقّبُونَ زِيَادَةً لِنَوالِ

حسنًا، هل من شواهد أخرى؟

نعم، لقد جاء في جريدة quot;المدينةquot; في 2/8/2003م تحت عنوان: ( العشماوي يطالب بعشرة آلاف لإحياء أمسيّة)! وحتّى لا يتطوّع رقيب، أو يتدخّل حبيب في حذف ما يراه تَجنٍ على أحد، سأورد الخبر كاملاً حيث يقول: (أبدى القائمون على مهرجان أمّ القرى الصَّيفي استغرابهم من مطالبة الشّاعر المعروف عبدالرحمن العشماوي بمبالغ ماليّة لإحياء أمسيّة شعريّة في مكّة المكرّمة، يلتقي فيها مع محبّيه ومحبّي شعره..
وأبان المشرف العام على المهرجان حسين أبو زبيبة، أنّه اتّصل هاتفيًّا بالشَّاعر العشماوي ووافق مبدئيًّا على إحياء أمسيّة شعريّة بالمدينة المقدّسة التي لها محبّة خاصّة في نفسه.. وإنّه فوجئ باتّصال هاتفي من quot;ابن الشّاعرquot; يُطالب فيه بوضع مبلغ عشرة آلاف ريال في حسابه بالبنك ممّا أثار استغرابه)!
لا يبدو الخبر في حاجة إلى مزيد تعليق، فالخبر - كما يُقال - يعلّق على نفسه، ولكن ما لفت النّظر هو استغراب quot;القائمين على المهرجانquot;، فهم مثل ملايين النّاس ممّن يظنّون أنّ كلّ ما يمسّ الدّين، ويتغنّى بالشّريعة هو في منأى عن حبّ الدّنيا والتّهافت عليها.
والعشماوي ndash; يُعرف بين محبّيه بأنّه شاعر الدّعوة الإسلاميّة ndash; والأمسيّة في مكّة، وهي عوامل مشجّعة على الزُّهد، ومحفّزة على القبول دون أيّ مقابل، ولكن ما لم يعلمه القائمون أنّ الأشعار الإسلاميّة تمامًا مثل الرّقية وتفسير الرّؤيا وغيرها، هي مجال من مجالات التّكسّب، وميدان من ميادين الارتزاق وquot;تحويش زينة الحياة الدّنياquot;، مساكين هؤلاء القائمون، كيف ظنّوا أنّ الشّاعر من الممكن أن quot;يشعر لهم ويعزف على جراح أمّتهquot; مجّانًا- تمامًا مثل كتب وزارة التّربية والتّعليم!
مساكين، كيف تصوّروا أن الشّاعر ملاك، أو وردة تتفتّح للنّاس وتبتسم لهم دون مقابل!؟
وفي النِّهاية، ومن الطّرف الآخر، ما المانع أن يأخذ الشّاعر مقابل quot;صناعة القوافيquot;، واستهلاك الورق في كتابتها، بمعنى من المعاني، ما المانع أن يُسوّق الشّاعر نفسه، حتّى لو كان يبيع الأشعار الإسلامية وضياع القدس وآلام كشمير!

[email protected]